الأربعاء، أكتوبر 11، 2006

تونس: الأمهات العازبات ضحايا أم مذنبات؟

تونس- خاص - أقلام أون لاين (محمد حمروني)
ازدادت بشكل لافت في السنوات الأخيرة ظاهرة حمل عدد من الفتيات وإنجابهن خارج إطار الزواج، في مخالفة للتقاليد الدينية والأعراف الاجتماعية والتشريعات القانونية. وتعكس هذه الظاهرة نوعا من التمزق الذي يعيشه المجتمع بين موروثه الثقافي والديني وبين ثقافة لا تعترف بضوابط أخلاقية، ولا حدود شرعية، يحاول البعض استنباتها بطريقة قسرية في بيئة تجهد في الممانعة. والنتيجة فتيات لم يتجاوز البعض منهن الخامسة عشر، يحملن على كاهلهن مسؤوليتهن ومسؤولية طفل، دون أن يكون لهن منزل تأوين إليه، أو عائلا تستندن عليه.
وحسب تقرير للمنظمة الدولية لحماية الطفولة (اليونيسف) صادر سنة 2005، فإن عدد حالات الولادة خارج مؤسسة الزواج قد تضاعف إلى حدود سنة 1990 أربعة مرات تقريبا في تونس، إذ ارتفع هذا العدد من 366 حالة تقريبا سنة 1960 إلى 1200 حالة سنة 1990 (*). ويذكر التقرير أن أكثر من 50 في المائة من الحالات تتراوح أعمارهن بين 19 و25 سنة، وأن 70 في المائة منهن بلا عمل، و41 في المائة منهنّ أمّيات.
الفقر والجهل
وتعليقا على هذه الأرقام قالت الباحثة والأخصائية الاجتماعية سامية بن مسعود في تصريحات لأقلام أون لاين: "هناك ملاحظتان على الأقل على هذه الإحصائيات: الأولى هي أن هذه الأرقام لا تعكس الواقع الحقيقي لهذه الظاهرة، فآخر التوقعات تقول إن عدد الحالات المسجلة سنويا في إقليم تونس مثلا – وهو واحد من 22 إقليما في البلاد – هي في حدود 350 حالة، بما يجعل الرقم المحتمل لعدد حالات الإنجاب خارج مؤسسة الزواج أكبر بكثير مما يذكره التقرير. ثانيا الدور الذي يلعبه الجهل والبطالة في ارتفاع عدد هذه حالات".
وأضافت "إلى جانب هذين العاملين نلحظ أهمية المستوى الاجتماعي في هذه العملية، فالأغلبية الساحقة من الفتيات اللاتي تمّ الإبلاغ عن وضعهن خارج الأطر التقليدية، ينحدرن من أوساط اجتماعية معدمة". وعن عدد حالات العودة قالت الباحثة "في الماضي كانت أعداد الفتيات اللاتي يكرّرن الوقوع في نفس الخطأ قليلة جدا، ولكن في السنوات الأخيرة ازدادت هذه الحالات".
ضعف الروابط الأسرية
ومع تكاثر مثل هذه الحالات بعثت في تونس جمعية خاصة للاعتناء بمثل هذه الحالات، وهي "جمعية أمل للعائلة والطفل". وتتمتع الجمعية بغطاء قانوني وبدعم مالي من السلطة. وفي تصريحات لأقلام أون لاين قال الدكتور مالك كفيف رئيس الجمعية إنها تأسست سنة 2000، وأنها تعمل على الإحاطة بالفتيات اللاتي ينجبن خارج إطار الزواج، خاصة وأن أغلبهن ينتمين إلى أوساط اجتماعية فقيرة، إن لم تكن معدمة.
وعن هدف الجمعية قال كفيف "هو بالأساس مساعدة الأمهات على عدم التخلّى عن أطفالهن، وهذا يتطلب مساعدة الفتيات على الاندماج الاجتماعي والعائلي، وتقوم الجمعية بتوفير التأطير وتقديم الحيطة الاجتماعية والنفسية اللازمة لمثل من تقعن في مثل هذه الوضعية، حتى تتمكن من الاستقلال بأنفسهن".
وأضاف "تشمل المساندة التي نقدمها: رفع قضايا ضد الآباء، الذين يرفضون الاعتراف بأبنائهم، وإرشاد الفتيات عن الطرق القانونية، التي تضمن لهن حقوقهن، كتسجيل الأبناء والحصول على النفقة".
وعن العوامل التي تحرك هذه الظاهرة قال كفيف "من أهم العوامل التي تؤدي بالفتيات إلى الوقوع في هذا الأمر هو ضعف الروابط الأسرية، فالفتاة اليوم قد تقضي أسبوعا أو أسبوعين خارج المنزل، دون أن يسألها أحد أين كانت.. كما أن رفع بعض العائلات حمايتها لبناتها ورميهن في الشارع جعلهن عرضة للسقوط في مزالق كثيرة، ومنها العلاقات التي قد تؤدي إلى الحمل".
وعود زواج زائفة
وقالت الباحثة ابن مسعود عن الأسباب، التي تؤدي بالفتيات إلى الوقوع في هذا الأمر "الأغلبية منهن يبررن انزلاقهن إلى هذا الوضع بوعود الزواج، التي يقطعها لهن شركاؤهن من الذكور". ومن هؤلاء مثلا شيراز. م (22 سنة)، وهي إحدى اللواتي وقعن في مثل هذا الأمر... تقول «البداية كانت لما انتقلت إلى الجامعة، حيث ربطتني بأحد الطلبة علاقة دراسة ما لبثت أن تطورت لتصبح علاقة عاطفية، بعد أن وعدني بالزواج. ومع مرور الوقت أصبحت تلك العلاقة أكثر حميمية، وصارت أشبه بعلاقة رجل بزوجته، ثم كانت المفاجئة عندما اكتشفت أني حامل، ولما أخبرته بما حدث تركني واختفى. وبما أني لم أكن أستطيع أن أخبر أحدا ولا حتى عائلتي، التجأت إلى جمعية "أمل"، التي ساعدتني خلال فترة الحمل وبعد الولادة".
وتصف شيراز حالها اليوم قائلة "تركت الدراسة بعد أن أصبح عليّ أن أعيل طفلا بكل احتياجاته، وبعد أن رفعت العائلة غطاءها عني، وأنا الآن محطمة لا أمل ولا مستقبل، وممزّقة بين ابني وبين العمل.. لقد بلغ بي الأمر إلى حد التفكير أكثر من مرة في الانتحار، فالحياة لم تعد تعني لي شيئا، وأنا افتقد عائلتي كثيرا، وحتى الشخص الذي أعطيته كل شيء.. أعطيته حياتي قام بالتخلي عنّي".
وعلى شاكلة حديث شيراز تذهب إفادة ألفة. خ (العمر 26 عاما- المستوى الدراسي الثالثة ابتدائي). إذ تقول ألفة عن بداية قصتها "بعد أن اكتشفت العائلة أمر علاقتي ببعض الشبان، قامت بطردي من المنزل، فنزلت العاصمة، وسكنت مع خالتي في أحد أحياء تونس العتيقة، ثم ما لبثت خالتي أن طردتني هي أيضا. لم أجد مكانا آوي إليه سوى السكن مع أحد الشبان، بعد أن وعدني بالزواج، ولما اكتشفت أني حامل، وأخبرته بذلك قام بطردي من المنزل، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أهيم على وجهي، أعيش على التسول وأنام أنا وابني في بعض الخرائب".
الاغتصاب
غير أن الأسباب التي تؤدي إلى مثل هذه الحالات المأساوية ليست دائما باختيار الفتاة، أو لمجرد وقوعها في المحظور، بل قد يكون الحمل ناتجا عن الاغتصاب. فعلى الرغم من أن عدد الفتيات اللاتي يتم الإبلاغ عن حملهن نتيجة الاغتصاب قليل بالمقارنة بعدد اللواتي يحملن على إثر نزوات أو وعود زواج.. إلا أن هذا العامل لا يمكن تجاهله، ونحن نطرح قضية الأمهات العازبات.. فكثيرات هن اللاتي وجدن أنفسهن حاملات رغما عنهن.
سميرة (33 عاما) تقول عن سبب حملها "كنت أسكن في أحد أرياف الشمال الغربي، ومثل كل "العروش" لازلنا محافظين على شكل السكن الجماعي، الذي يسمى عندنا "بالدوار"، وكان لي ابن خالة طلب مني الزواج فرفضت. وذات يوم وبينما كان كل أهلي خارج المنزل قام الأخير باقتحامه عليّ وهددني ببقايا قارورة وموسى كانت معه وطعنني في بطني طعنة لازالت آثارها بادية إلى الآن. ورغم مقاومتي إلاّ أنه تمكن من النّيل مني، لاكتشف بعد ذلك أني حامل، فتركت المنزل بحجّة العمل واختفيت عن أنظار العائلة، وكنت ارتدي لباسا فضفاضا حتى لا تبدو علي الحمل. ولما أحسست بقرب الوضع ولم أجد من التجأ إليه قصدت أخي الذي كان يسكن العاصمة، وبقيت عنده دون أن يكتشف أمر حملي حتى جاءت لحظة المخاض، فأخذني إلى المستشفى وهو يظن أن بي مغصا، ولما اعلمه الطبيب أني حامل وأني سأضع مولودا تركني في المستشفى ولم يعد، ومنذ ذلك التاريخ لم أر أحدا من عائلتي.. تعيش سميرة اليوم مع ابنها بأحد الأحياء الشعبية بالعاصمة (حي التضامن) وتعمل خادمة تتنقل بين منزل وآخر، حتى تضمن لنفسها وابنها لقمة العيش.
جدل
وتثير هذه القضية جدلا كبيرا منذ أن تكاثرت أعداد الفتيات اللاتي يحملن خارج إطار الزواج. ويرى بعض الباحثين أن هذه الظاهرة هي نتيجة طبيعية للتطورات، التي يشهدها المجتمع التونسي في علاقة بالمتغيرات الدولية، وتأثيرات الحضارة الغربية التي عولمت القيم أيضا بعد أن عولمت الاقتصاد والمال والأعمال. ويستند هؤلاء في قراءتهم هذه إلى ما شهدته المجتمعات الغربية بصفة عامة، والمجتمع الفرنسي على وجه الخصوص، منذ بداية الثورة الصناعية، وخاصة على اثر الحربين العالميتين، وما تلاهما من تغييرات شملت كافة مناحي الحياة. ويؤكد هؤلاء أن المجتمع الفرنسي مثلا مر بنفس الصعوبات، التي تحاول مجتمعاتنا العربية الإسلامية تجاوزها.
من جانب آخر يرى بعض المحافظين من ذوي التوجهات الإسلامية والمحافظة بصفة عامة أن ظاهرة حمل الفتيات خارج إطار الزواج وإنجابهن أطفالا غير شرعيين، ليس سوى نتيجة لسياسات التغريب ومحاولات فصل المجتمع التونسي قسريا عن بيئته العربية الإسلامية، وإلحاقه إلحاقا بالثقافة الغربية تحت مسمّيات عدّة مثل العولمة والفضاء الاورومتوسطي والشراكة. كما يرى هؤلاء أن هذه الظاهرة هي واحدة من عدد كبير من الآثار السلبية التي أصابت مجتمعاتنا، بسبب محاولات الإلحاق الحضاري والمسخ المتعمد الذي تتعرض له. ومن تلك الآثار: المخدرات والاغتصاب والسرقة والقتل لأتفه الأسباب. ويعتبر هؤلاء أن المنظمات والجمعيات التي تحاول أن ترعى هؤلاء وتقدم لن الرعاية والعناية اللازمتين على نبل الخدمات التي تقدمها ليست سوى أدوات لتجميل قبح المنظر المشوه، الذي خلفته وتخلفه محاولات "الغربنة" و"الأوربة".
.. الفقر والجهل، أم ضريبة الخيارات والتوجهات.. ليس ذلك ما يهمّ عددا كبيرا من الفتيات اللاتي وجدن أنفسهن ممزقات بين دعاوى الحرية والتحرر والخيارات الثقافية من جهة، وتمسك غير عادي بالقيم والموروثات من جهة أخرى في "لخبطة" عجيبة يعيشها مجتمعنا اليوم. فحتى الشاب.. الشريك الأساسي للفتاة في مثل هذه الحالات هو أول من يتخلّى عنها، لا تهربا من المسؤولية فحسب، وإن كان هذا موجود.. بل لاعتبارات أخلاقية ذات علاقة بموروثه الديني والثقافي والحضاري، لا تزال راسخة بداخله، ولا تزال تجرّم هذا الفعل حتى وإن كان هو الذي أتاه.. صحيح أنه شريك للفتاة، ولكنه يرفض أخلاقيا بحكم ثقافته ما أتاه هو نفسه من فعل. وهذا الموقف ينسحب على المجتمع أيضا الذي حتى وإن سارت شرائح منه في اتجاه التغريب والتحلل الأخلاقي بدواع مختلفة، واستجابة لخيارات معينة، فإنه يظل يرفض في أعماقه حتى ما يمكن أن يأتيه هو من أفعال لا تتماشى مع موروثه، ويظل المحدد الأساسي والأخير لحكمه على الفعل أي فعل هو ما تشربه من قيم من بيئته وتاريخه وحضارته.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

Bravo Slaim pour ce choix !!