تونس/الصباح
انهى مجلس النواب يوم الاثنين المنقضي مداولاته المتعلقة بميزانية الحكومة للعام القادم، بعد نحو اسبوعين من المناقشات التي شملت جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها.
ويبدو للمتتبع لسير المداولات، ان المناقشات التي شهدها البرلمان خلال هذه الفترة، لم تكن بالحماسة والعمق اللذين سجلا على امتداد السنوات الماضية من عمر التجربة التعددية البرلمانية.. فقد كانت معظم المداخلات «شبه عادية»، اذا استثنينا بعضها ممن تعاطى مع ملفات حساسة بجرأة وشجاعة على غرار مسائل الضرائب والزي الطائفي والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والاعلام..
ولا يمكن للمرء فهم هذا «الضعف» في التعاطي البرلماني مع ميزانية الدولة التي تعد الاصعب والاعقد قياسا بموازنات العقد الماضي على الآقل، بالنظر الى الظرفية التي جاءت فيها، وخصوصية المرحلة، وطنيا واقليميا ودوليا.. بل ان المرء ليتساءل وهو يتابع هذه المداولات: هل بلغ الشعور بالرضا لدى نواب الشعب، مرحلة لم يعد معها من الممكن التعاطي النقدي العميق مع الميزانية؟ أم هي بعض «الحسابات» السياسية لدى نواب المعارضة كما نواب الحزب الحاكم، التي باتت تحول دون اضفاء نوع من العمق على المناقشات المتعلقة بالميزانية؟
تفسيرات مختلفة..
من المؤكد ان ثمة مداخلات جريئة، انتقدت وتساءلت واعترضت وتحفظت عند عملية التصويت، لكنها في الواقع كانت مداخلات معزولة، لم تعبر عن مسحة عامة في المجلس النيابي، مثلما كان يحصل خلال السنوات الماضية.. وبدأ مجلس النواب «على عجل من امره» في تعاطيع مع الميزانية.
بعض النواب يفسرون ذلك بالطريقة الجديدة في مناقشة الميزانية، حيث بات المجلس مطالبا بانهاء المناقشات في وقت قياسي لكي يسمح للغرفة الثانية (مجلس المستشارين) بمناقشتها بدوره، وهذا ما انعكس ـ في رأي هؤلاء النواب ـ على التوقيت المخصص لمداولات الميزانية وبالتالي للنواب، وهو توقيت يوصف بـ«المحدود» و«الضيق»..
لكن نوابا اخرين، ينتقدون كذلك، وصول الوثائق بصورة متأخرة اليهم، حيث يتلقونها قبل يوم او اثنين، او قبيل ساعات من مناقشة هذا الباب او ذاك، مما لا يسمح لهم بقراءتها والتمعن فيها، واعداد المداخلات المعمقة بشأنها.
ورغم وجاهةهذه الملاحظات وقيمتها فان ذلك لا يمكن أن يفسر لوحده هذا «الضعف» في نوعية المداخلات ودرجة عمقها التي سجلت تراجعا ملحوظا..
حسابات سياسية
ويجمع المتتبعون لمداولات المجلس النيابي، على ان بعض «الحسابات» السياسية هي التي تقف وراء هذا التراجع، خصوصا بالنسبة لنواب المعارضة، الذين اصبح يهيمن على مداخلاتهم خطاب التنويه والاشادة بسياسات الحكومة بشكل لافت للنظر، في وقت يمثل دورها الرئيسي في الاضافة من خلال تقديم مقترحات لتطوير منوال التنمية الذي تطرحه عبر الميزانية السنوية..
صحيح أن النقد قد حصل في مواضع كثيرة من أركان المداولات، غير انه ـ والحق يقال ـ كان نقدا سطحيا، لم يمس روح الميزانية وتفاصيلها، بقدرما طال بعض جوانبها الهامشية.
في المقابل لم يتخلص نواب الاغلبية البرلمانية (التجمع الدستوري) من خطاب التنويه المتواصل بسياسة الحكومة، بموجب ومن دون موجب، بل ان المرء يلاحظ في كثير من الاحيان، هيمنة هاجس الدفاع عن خيارات الحكومة حتى وان كانت الحكومة في غنى عن هذا الدفاع، وهو ما يجعل الكثير من المداخلات، من باب تسجيل موقف، أكثر منه تقديم مقاربة تضيف شيئا للحكومة ذاتها..
على أن ملاحظات عديدة يمكن ان نسوقها بشأن مداولات هذا العام، والتي بدت بمثابة الظواهر الجديدة، من بينها:
ملاحظات اساسية..
* خلو النسبة الاكبر من مداخلات النواب، من العمق المطلوب عند مناقشة ميزانية حكومة واختزل الامر في بعض التساؤلات التي لم تكن تستحق اجابة اعضاء الحكومة الذين تغاضوا عنها في ردودهم..
* وجود تكرار في تساؤلات النواب واستفساراتهم الى حد ان مداخلات بعض النواب، باتت معروفة مسبقا بمجرد النطق باسم النائب.
* سجلت ردود من نواب التجمع الدستوري على بعض مداخلات نواب المعارضة لا مبرر لها، على الرغم من وجاهة الملاحظات التي وردت على لسان نواب المعارضة..
* تسجيل اعتراضات عديدة من نواب المعارضة على فصول من قانون المالية، لكنها اعتراضات كانت مسبوقة بنقاش معمق ودقيق مس جوهر قانون المالية وملامحه العامة..
* سعة صدر رئاسة الجلسة العامة مع النواب، وهو ما برز من خلال رئاسة السيدين فؤاد المبزع وعفيف شيبوب من دون اقصاء..
* اضطرار الحكومة لأول مرة منذ انطلاق التجربة التعددية البرلمانية في العام 1994،. الى سحب بند من قانون المالية بعد الانتقادات الجوهرية لنواب الاتحاد الديموقراطي الوحدوي، الذين قدموا مسوغات لعدم دستورية هذا البند 083 من قانون المالية) حيث اضطر وزير المالية الى اعلان صياغة مشروع قانون جديد بمضمون هذا البند، يتم عرضه على المجلس الدستوري ثم طرحه على مجلس النواب لاحقا.
* ضعف مداخلات الغالبية العظمى من النواب من حيث سلامتها اللغوية (النحوية والصرفية)، بحيث لم يكن لسيبويه اي اعتبار لدى هؤلاء النواب..
* لوحظ اصرار بعض اعضاء الحكومة على التمسك بمشروع الميزانية، من دون اي استعداد لتعديل حتى بعض الاخطاء اللغوية الواضحة.. وهو تمسك غبر مبرر، طالما ان دور المداولات النيابية، هو التنبيه الى مثل هذه الهنات وغيرها..
وعلى أية حال، فان المناقشات المتعلقة بميزانية العام القادم، يمكن تصنيفها ضمن المناقشات الأضعف منذ نحو عقد من المداولات النيابية.
صالح عطية
ـو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق