د أبو خولة (*)
حصلت اشتباكات متكررة بين قوات الأمن التونسية و مجموعات إرهابية تسللت للبلاد من الجزائر، تنتمي لــ "الجماعة السلفية للدعوة و القتال"، التي انضمت سنة 2006 لــ "القاعدة". و كتبت "الوسط" التونسية : " أكد وزير داخلية تونسي سابق بأن عدد القتلى والجرحى في حادثة الاشتباك المسلح بمنطقة سليمان القريبة من مدينة نابل التونسية-حوالي 30 كم جنوبي العاصمة تونس- كان حوالي خمسين قتيلا وجريحا في صفوف المجموعة المسلحة ومختلف الفرق الأمنية التي شاركت في التصدي للمجموعة يوم 3 جانفي 2007."
في تقديري توجد ثلاثة دوافع أدت بالقاعدة لمحاولتها البائسة هذه: (1) التغطية على فشلها الذريع السابق بمناسبة انعقاد قمة المعلومات في تونس في نوفمبر الماضي، حيث أعلنت نيتها نسف المؤتمر (انظر مقالي السابق بعنوان: فشل القاعدة الأخير في تونس)، (2) الدعاية لتنظيمها المغاربي الجديد (الجماعة السلفية للدعوة و القتال )، و (3) محاولة التستر على الضربة القاضية التي ستلحق بهذا التنظيم اثر المعلومات المتواترة عن استسلام قريب لزعيمه و حوالي 100 من اتباعه.
تبقى تونس هدفا أساسيا للإرهاب، إذ كما أكدت في مقالي السابق : " تحديد تونس على راس قائمة الدول المستهدفة من طرف القاعدة ليس بغريب نظرا لأهميتها كأكثر الدول العربية حداثة في مجالي حقوق المرأة و تحديث و ترشيد التعليم، الديني منه خاصة، وهو ما يتناقض أساسا مع ثقافة التخلف وفقه الظلام لهذه المنظمة الشريرة ".
أما ما نقلته "الوسط التونسية" بخصوص "حديثها مع قطب معارض بارز بأنه قد يكون وقع توظيف بعض المجموعات المسلحة ضمن خطة لزعزعة الأمن والاستقرار بالبلاد التونسية كتمهيد لاعلان حالة انتقالية تشهدها البلاد عبر إعلان حالة الطوارئ وتولي جهات "غير معلومة " لمقاليد الأمور على خلفية انفلات الأمن وانهيار عنصر الاستقرار والسلم الأهلي والاجتماعي"، فهو يعكس كيف أن "الوسط" هي ناطقة غير رسمية باسم "نهضة" الغنوشي تدس السم في الدسم باطلاقها لشائعات تعبر عن مخططات و أمنيات الغنوشي الإجرامية اكثر مما تعبر عما يقع فعلا على الأرض. بل لا نستبعد أن يكون هذا "القطب البارز" الذي أبقت "الوسط" اسمه طي الكتمان هو راشد الغنوشي نفسه.
لا شيء يبرر هذا السيناريو اللامنطقي: مخاطرة أطراف تونسية - إن وجدت - بالاتصال بتنظيم إجرامي خارجي، يرصد الأمن الجزائري تحركاته بعين لا تنام، خصوصا و انه توجد طرق أخرى لإرسال نفس الرسالة – من داخل البلاد - دون اللجوء إلى خدمات هذا التنظيم الإرهابي.
و يمكن أن نوجه نفس الرد للدكتور منصف المرزوقي، الحليف السياسي للرئيس الأبدي للنهضة -راشد الغنوشي-، الذي دعا بالمناسبة لــ" حكومة تونسية مؤقتة تعيد للحوار مكانته "، كما لو كانت تونس صومال ثانية، وهو نداء بلا معنى لان ظروف الإرهاب ليست بالتوقيت المناسب للحوار، بل غالبا ما تؤدي هذه الظروف إلى عكس ذلك، إذ أدت المجازر التي ارتكبها الإخوان المسلمون في سوريا في بداية الثمانينات من القرن الماضي إلى زيادة سطوة النظام الأمني في هذا البلد - لا العكس -، كما قدمت عمليات التنظيمات الجهادية الخارجة من عباءة الإخوان في مصر تبريرا لاطالة حالة الطوارئ. و قس على ذلك في الجزائر و السعودية و دول أخرى.
ادعى د. منصف المرزوقي أيضا بان هذا التحول للعنف و الإرهاب " شبه حتمي". و هذا يعبر عن أماني صديقي المنصف اكثر مما يعبر عن احتمال جدي، إضافة إلى أن الديمقراطية ليست ترياقا للإرهاب. ضربت القاعدة في الولايات المتحدة و إسبانيا و بريطانيا و تهدد بالضرب في فرنسا، فلماذا لم تحم هذه الديمقراطيات العريقة شعوبها من إرهاب الحركات الإسلامية العابر للقارات؟
أما بخصوص تفسير مدى الفشل الذريع الذي منيت به هذه العصابة المتسللة من الجزائر، ما أن انتقلت من المناطق الجبلية التي تغطيها الأشجار إلى المناطق الحضرية بضواحي تونس العاصمة، فليس لي ما أضيف على تفسيري لفشل القاعدة السابق في تونس بمناسبة انعقاد قمة المعلومات، عندما كتبت: " الجواب هو أن نجاح عملية إرهابية كبرى يتطلب أكثر من تهريب متفجرات عبر الحدود، حيث يقتضي توفير دعم لوجستي لإيواء الإرهابيين. و هذا لا يتم إلا بوجود عناصر محلية مستعدة لمد يد العون... مثل هذا الاستعداد متوفر في دولة مثل الأردن، حيث كان أسامة بن لادن يحظى بتأييد نسبة اكثر من 65% من المواطنين، حسب الاستطلاعات التي أجريت قبل تفجيرات عمان... مثل هذا الدعم الجماهيري غير متوفر في المجتمع التونسي، الذي هو مجتمع طبقات وسطى تحميه من اللجوء للعنف".
كما أن البحر علم التوانسة الانفتاح على الخارج و على الثقافات العالمية، و ساعدت القنوات التلفزية و الانترنيت هذا الانفتاح، و ساهمت السياحة بقوة في هذا التلاقح الثقافي: ما يزيد عن 6 مليون سائح أجنبي سنويا تضاف إليهم قرابة 3500 شركة أجنبية تعمل في البلاد.
هزيمة "غزوة" القاعدة لتونس خبر سعيد للجميع باستثناء حاقدي "النهضة" و حلفائهم". لكن مما لا شك فيه إن على تونس أن تكون اكثر انفتاحا إعلاميا و اكثر رعاية للمعارضة -المعترف بها و الاعتراف بتلك التي لم يعترف بها بعد- و في مقدمتها جمعيات المجتمع المدني مثل "الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات" التي تعي اليوم الدرس نفسه الذي نعيه.
على الدول العربية و الإسلامية التي تحاول جاهدة التصدي للفكر التكفيري أن تعي انه كما تتطلب الانتخابات ترشيح مرشح يميني لمنافسة مرشح يساري و العكس، و كما يتطلب هدم نظرية قديمة في العلوم تطوير نظرية جديدة تتفوق عليها، يتطلب القضاء على الفكر التكفيري الإرهابي تطوير فكر جديد معادي له، و لا يتم هذا إلا بدعم قوى الحداثة و التقدم في المجتمع، و هذا للأسف عكس ما قامت به معظم دول المنطقة خلال العقود الخمسة الماضية.
الأولوية المطلقة في العالم العربي الإسلامي اليوم -مسقط راس الحركات السلفية الإرهابية- تتمثل في إيجاد تربة مجتمعية جديدة غير صالحة لنمو هذه النبتة الخبيثة. و لن يحصل هذا إلا بإقرار ثقافة عصرية جديدة تقر بحقوق المرأة و الاقليات الدينية، و تعتمد على مناهج تعليمية حداثية تشيع مبادئ التسامح و الانفتاح على الآخر. حصل هذا -إلى درجة كبيرة في تونس- بصدور قانون المرأة و تعميم التعليم الحداثي العصري منذ حصول الدولة على الاستقلال، و إلغاء جامعة الزيتونة بدمج طلابها في مدارس التعليم العام. و عندما تم افتتاحها بنفس الاسم في بداية التسعينات من القرن الماضي، جاءت في حلتها الجديدة مؤسسة تعليمية رائدة و مثالا حيا لما يجب أن تكون عليه كليات الشريعة في سائر دول العالم العربي-الإسلامي. و عندما يحصل نفس الشيء في باقي الدول العربية و الإسلامية، ستستعصي هذه الأخيرة بدورها على الإرهاب و المحرضين عليه، تماما كما استعصت تونس على إرهاب القاعدة هذه المرة أيضا.
(*) كاتب المقال منسق اللجنة الدولية للدفاع عن العفيف الأخضر، منسق سابق للجنة الدفاع عن د. منصف المرزوقي في سنة 2000، و رئيس سابق لفرع تونس لمنظمة العفو الدولية.
TUNISNEWS نقل من
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق