الثلاثاء، ماي 08، 2007

أزمـــة السياسة بتونس

بقلم عبد الرؤوف العيادي



تحتاج التجربة السياسية في بلادنا التي قامت بعد الاستقلال سنة 1956 إلى تقييم يكشف عن أسباب الانحراف التي جعلتها تصاب بالضمور في مرحلة أولى ثمّ يأفل نجمها تقريبا فتصبح الروابط التنظيمية هي المحددّة في سلوك المنتمين أو المناضلين السابقين و يختزل العمل السياسي بعدئذ فيما هو شبيه بالطقوس التنظيميّة ( اجتماعات ، مؤتمرات ، كرنفالات الخ..) و إلى لعبة رهانها تنظيمي ينصب على توزيع الأدوار و المناصب داخله ، إنها لعبة تنطلق من التنظيم لتنتهي إليه في حركة دائرية تلتف على ذاتها بما يقود في آخر المطاف إلى انفصالها عن حركة المجتمع و التي كان المفروض أن يكون فاعلا و متفاعلا معها و مع ما تفرزه من تطلعات .

كيف تحوّل " التنظيم الحزب " إلى مصدر وحيد للسياسة بالتعريف عبر توجيهات القائد المنقذ المتبصر و حتى المتنبئ و وضع عليها علامة المقدس و المقدس طبعا لا يتطور مع الأوضاع

ثم كيف انزلق اليسار في طور أول ثم الاتجاه الإسلامي في طور ثان إلى مثل هذا المقدس - بما كرس لثقافة " السياسة " كحقيقة فلسفية أو دينية يؤخذ بها و ليس كبرامج إجرائية و مشاريع عمليّة مطروحة من قوى متعددّة لاختبار مدى قدرتها على إصلاح الواقع .

ما هي إذن الأسباب التي تجعل العمل السياسي يتـــحول من أهداف و برامج و أساليب نضال إلى سلوك تحكمه مصالح التنظيم و امتيازات القائمين عليه ثم كيف يتحول الهدف من خدمة المجتمع إلى خدمة التنظيم و لماذا يصبح تقدير قوّة التنظيم و إمكانات أجهزته المقياس في تحديد الأهداف السياسية و" تحكيم موازين القوى" التي هي بالأساس تنظيمية وفق رؤية توازن بين الأحزاب القائمة و كيف يصبح رجل الجهاز بديلا عن رجل السياسة بمعنى حامل المشروع و البرنامج ؟

كيف يتمّ الانتقال من عالم السياسة إلى عالم التنظيم ، من عالم الأفكار إلى عالم المراكز و المواقع بالأجهزة ؟ و كيف يصبح التنظيم ينتج المسوغات و الخطاب الأديولوجي الملفق بدل البناء الفكري المتماسك ؟

أحد المسؤولين السابقين بالحزب الدستوري الذي أبدل تسميته بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987 ليصبح التجمع الدستوري روى تجربته مع المجموعة التي قادها أحمد المستيري سنة 1971 و التي انتهت برفضه الالتحاق بالتنظيم الذي أحدثه المستيري و رفاقه أواخر السبعينات قائلا وهو يتحدث لعدد من الزملاء المحامين : أجبته عن العرض " ما نبدّلش بورقيبة بأحمد المستيري " بهذه العبارة لخص موقفه الذي أصبح موضوعه " خيار بين شخص قائم على التنظيم و آخر أصبح قائما على مثيله "و ليست أفكاره و توجهاته السياسية ، الخيار أصبح إذن بين تنظيم و آخر و ليس بين برنامج سياسي و آخر .

في نفس السياق كان بورقيبة يقدّم خلافه مع صالح بن يوسف على أنه منافسه في زعامة الحزب و نيل المركز الأولّ به ، كان دائما يقول إن صالح بن يوسف لم يقبل بالرتبة الثانية إنه كان يريد المرتبة الأولى ! وهي القراءة التي روج لها طيلة فترة حكم بورقيبة .

و خلال تلك الفترة أصبح الولاء للحزب يساوي الولاء للوطن و الولاء للزعيم يساوي الولاء للحزب و أصبحت تونس تدعى بتونس البورقيبية في خطاب الحزب الاختزالي ، فالزعيم هو المركز الذي يدور حوله عناصر النظام المشكل من هياكل و أجهزة لها وظيفة مشتركة في ربط الرأس ببقية الجسم .

و ما جاء بتصريحات الطاهر بلخوجة وزير الداخلية السابق في عهد حكم بورقيبة بحلقات برنامج " شاهد على العصر " التي بثها تلفزيون الجزيرة خلال سنة 2002 يلخص تجربته في الولاء لشخص بورقيبة و تبرير تورطه في ممارسات قمعية حالت دون خلق هامش للحرية تنمو داخله حياة سياسية بانهماكه في بناء الأجهزة و التي كان يقصد بها استمرار النظام و تأمين بقائه .

و الحاصل من هذه التجربة أن نظام بورقيبة قد منع إقامة حياة سياسية و أصبحت السياسة حكرا على القائد المتبصر و محتكر الحكمة الرشيدة و ذلك بوسيلة القمع البوليسي و المحاكمات المتتالية و التي حالت دون نمو حياة سياسية تجعل من تراكم التجارب مادّة لتطوير الأفكار و أساليب تجسيمها على نحو يتفاعل مع حركة المجتمع و نحو مزيد من التحررّ و التطلع نحو الأفضل .

و في ظلّ نظام بورقيبة القائم على دكتاتورية " الحزب الدستوري " و ما فرضته من تقلّص المجال السياسي إلى حدّ الانعدام ، كانت المعارضة التي فرض عليها العمل خارج شرعيّة النظام تتصدى بالأساس إلى إعادة بناء الخلايا السريّة للتنظيم بعد تفكيكها من طرف آلة القمع البوليسي و ذلك بالأساس من منطلق التمايز الأديولوجي حتى إذا انتهت تجربة حكم بورقيبة بانقلاب 7 نوفمبر كان الرصيد السياسي للسلطة و المعارضة على حدّ السواء في مستواه الأدنى بما جعل الإخفاق في بناء نظام جديد على أساس من التعايش الديمقراطي غير ممكن الإنجاز فما كان يوحدّهما إنما هو التقييم السلبي لتجربة بورقيبة - كلّ من منطلقه - و لم يكن هناك برنامج سياسي ديمقراطي يشكل البديل الإيجابي الذي تجتمع حوله القوى الوطنية .

لذلك سرعان ما عاد الصراع بين السلطة و المعارضة ( ممثلة في مرحلة أولى في الحركة الإسلامية ) و ذلك في بعده التنظيمي ( أجهزة القمع للسلطة القائمة ضدّ خلايا حركة النهضة ) كما اكتسى إلى حدّ ما بعدا أديولوجيّا و لم تكسب المواجهة بعدا سياسيّا ، لذلك سرعان ما حسمت المعركة و بالأدوات التي أرادها النظام ( أدوات تنظيمية ، أجهزة متعددّة ) و الــتي كان يفوق فيها خصمه عددا و عدّة .

و لذلك عاد نظام بن علي إلى الوضع الذي كان فيه نظام بورقيبة في آخر عهده دون أن تسجل المعارضة كسبا سياسيّا - بل ولدّ غيابها حتى بصيغته التنظيمية فراغا جعل النظام قادرا على مدى أكــثر من عشرية - تحملّ تبعات أزمته دون مخاطر كبيرة .

و استمرّت تجربة حكم بن علي التي أعادت تفعيل دور الأجهزة القمعية من بوليس و لجان أحياء و غيرها و جعل من رئيس الدولة محور الأجهزة و الماسك بدواليبها بما شددّ في الطبيعة القمعية للنظام ، إذ بالنظر إلى فقدان رئيس الدولة للتجربة و الرصيد السياسي نزل بالحزب الدستوري ( الذي أصبح يطلق عليه التجمع ) إلى مستوى الأجهزة الواقعة تحت وصاية البوليس السياسي كما استعاد الإعلام دوره في تبليغ الولاء للسلطة و التنديد بخصومها .

و أصبح مضمون سياسة معارضة القصر هو الولاء و التأييد بعنوان " الوفاق " فيما شكل شلّ للوظيفة الطبيعية لتلك الأحزاب .

و طبيعي أن تكون بحكم تعطيل وظيفتها السياسية منشغلة بما هو تنظيمي فلا يكاد تاريخها خلال فترة حكم بن علي يخرج عن تنصيب قيادة و تغيير قيادة كلّ ذلك طبعا بترتيب مع القصر و لا وجود لإنتاج سياسي لديها يذكر سوى بعض المقالات الصحفية السطحية التي نالت من صورتها و أفقدتها كلّ مصداقية .

أما عن أسباب هذا الانحراف في تقديم ما هو تنظيمي على ما هو سياسي فهي تعود إلى حدّ كبير إلى المفهوم اللينيني للتنظيم الذي ساد بدول العالم الثالث وهو يسعى إلى فرض وصاية على كافة الشعب و بذلك يبررّ امتداداته بشكل يتحول فيه إلى جهاز ضخم تعمل آلياته وفق حركة ذاتية لها قوانينها الخاصّة و تخضع لإرادة المركز الذي يحتلّه القائد و الذي يصبح لا يرى مصلحة المجتمع إلاّ من خلال مصلحة التنظيم الخاصّة و فاعليته في تأطيره و استيعاب حركته .

و قد لا أبالغ إذا قلت أن هذا المفهوم التنظيمي كان ضمن ما هو مشترك في الثقافة السيــــاسية للسلطة القائمة ( التي أخذت بالشكل اللينيني المركزي للحزب ) و المعارضة بتعبيراتها اليسارية و القوميّة الإسلامية ، فالجميع كان ينوي بسط سلطته بواسطة تنظيم يغطي البلاد من أقصاها إلى أقصاها و يؤطر الشعب كافة بجميع فئاته و قطاعاته.

و فيما يتعلق بالسلطة فإن العمل بالتصورّ المركزي للتنظيم إنما كان خاضعا في تطوره إلى بنية النظام السياسي الذي جعل من البوليس السياسي ركيزته بإشراف مباشر من رئيس الدولة ( هذا بإقرار وزير الداخلية السابق الطاهر بلخوجة في حديثه لتلفزيون " الجزيرة بإحدى حلقات شاهد على العصر ) إذ مع اشتداد أزمة النظام يتحول الحزب ( التجمع ) إلى أحد الأجهزة الواقعة تحت إشراف البوليس السياسي.

و طبيعي أن يعيق هذا التصوّر بناء مؤسسات الدولة وفق المفهوم الديمقراطي الذي يجعل النظام السياسي مقيّدا بالقانون - الذي هو قانون الدولة - إذ ما عشناه و ما نعيشه اليوم هو تحويل القانون إلى أداة بيد النظام يتلاعب به تنقيحا و تجاوزا و لم يكن في يوم ما ضابطا لممارساته - لذلك كان بورقيبة ثم اليوم بن علي يرفضان مبدأ التداول على السلطة ، فالدولة مطلوب استمرارها و لكن ليس عبر مؤسساتها و قوانينها و لكن عبر بقاء رئيسها قائما على أمورها مدى الحياة .

أمّا القانون فيستعاض به بالتعليمات و المناشير التي كسبت من الفاعلية ما لم يكسبه القانون .

و في ظلّ هذه البنية للنظام السياسي القائم على مركزية حكم الفرد و تسلطه فإنه يصبح من سخف القول الحديث عن إمكانية قبوله بوجود معارضة سياسيّة مستقلّة.

لقد اتضح من خلال الأنموذج التنظيمي المركزي الرائج منذ خمسين سنة و كذلك من خلال بنية النظام الأمني أن ما يوحدهما هو فكرة الوصاية ، وصاية القائد الرئيس الذي تختزل في شخصه السياسة و التنظيم و الفكر .

إن ما هو مطروح على البديل الديمقراطي هو استيعاب المفاهيم و التصورّات التي قادت إلى أزمة سياسيّة بتونس في مقابل تضخم ما هو تنظيمي و العمل من أجل الأخذ بتصورّات و مفاهيم بديلة تسمح بتطوير الإنتاج السياسي و تحريره من قيود التنظيم و ما يفرضه من حاجيات مرتبطة بالدور الموكول للمركز به الذي يحتلّه القائد - الرئيس .

إننا بحاجة إلى ثقافة سياسيّة جديدة بديلة تقدّم الفكرة على الفرد و السياسة على التنظيم .







كنا تساءلنا في الورقة الأولى التي تناولت أزمة السياسة بتونس عن الأسباب التي آلت في بلادنا إلى انعدام حياة سياسيّة ، و حاولنا من خلال تحليل العلاقة التي قامت بين ما هو تنظيمي و ما هو سياسي شرح كيف أن التنظيم عبر الشكل المركزي الذي كرس لدى كلّ من السلطة و المعارضة على حدّ السواء أصبح ينزع إلى الاستقلال عما هو سياسي ، ليعمل من أجل حاجات و مصالح خاصّة به تؤمن بقاءه و بقاء مركزه ( قائد التنظيم - الحزب ) و تقلص بذلك الفضاء السياسي إلى حدّ الانعدام بعد أن أصبحت الأجهزة الأمنية المختصّة تحت إشراف رئيس الدولة تدير العلاقات بين التنظيمات و الأحزاب السيـاسية و توجهها وفق إرادته في المحافظة على التوازنات التي تؤمن بقاءه بكرسي السلطة .



و في جانب المعارضة لا تختلف الصورة كثيرا عمّا سبق وصفه من حال السلطة - إذ أصبحت حياة التنظيم خاضعة لمنطق البقاء كهياكل و بنى تنظيمية ممركزة في شكلها حول شخص " الأمين العام " و هذا مرتبط بالمحافظة على بعض التوازنات داخلها و تجاوبا مع هذه الحاجة يتمّ معالجة التناقضات و التي تتحولّ أحيانا إلى مواجهة بينه و بين السلطة و بينه و بـــــين أتباعه داخل التنظيم ( انقسامات ، صراعات داخلية ).





و في هذه الورقة نتناول المظهر الثاني من أزمة السياسة بتونس من خلال البحث في العلاقة بين الأديولوجيا و السياسة و ما يمكن تسجيله كملاحظة أولية هو الخلط الحاصل في ذهن العديد من المعارضين بين ما هو سياسي و ما هو أديولوجي ، إذ يذهب البعض إلى الاعتقاد أن وفرة الكتابات و بعض المقالات التحليلية الصادرة خاصّة عن رموز المعارضة تشكل رصيدا سياسيّا في حين أن تحليل مضمونها يجعل المرء يقف على حقيقة مغايرة وهي طغيان المقاربة الأديولوجية للمسائل السياسية .

و طالما لم يقع الوعي بهذا القصور السياسي فإن المعارضة سوف لن تكون في وضع يسمح لها بتجاوز الأزمة التي تردّت فيها نتيجة هذا الخلط .

و حتى نفهم ظاهرة تضخم الأديولوجيا على حساب السياسة لدى المعارضة لابدّ من تحليل تطورّ أديولوجيا النظام وتحليل مقولاتها في عهد حكم بورقيبة و في العهد الحالي باعتبار أنها تشكل الإطار الذي يتفاعل داخله التيارات الأديولوجية المعارضة .





· من الأديولوجيا الوطنية إلى الأديولوجيا الأمنية أو الفراغ الأديولوجي :



قامت الحركة الوطنية في جانبها الأديولوجي على مقولات " الــــــوطنية و الاستقـلال و التحررّ الوطني " و بقيام سلطة حزب بورقيبة سنة 1956 استمرّ الترويج لهذه المقولات في طور أولّ استمرّ إلى جلاء القوات الفرنسية المحتلّة عن بنزرت سنة 1964 ثمّ تخلى النظام عن المقولات الوطنية التي استعيض عنها بمقولات " التعاون المثمر " مع المستعمر السابق و تمّ استبعاد المقولات السياسية التي أصبحت تختزل في شعار " الوحدة القومية " حول القائد و تمّ الاستعاضة بها بمقولات اقتصادية " الخروج من التخلف " و " اللحاق بركب الأمم المتحضرة" بما يؤكدّ إرادة السلطة في طي صفحة السياسة التي انتهت بتحقيق الاستقلال الوطني .

على أن توالي الأحداث بداية من 1965 بحصول المواجهة بين السلطة و المركزية النقابية ( الاتحاد العام التونسي للشغل ) بعد قرارها بعث شعب مهنية داخل المؤسسات الاقتصادية ، ثم بيــنها و بين الطلبة بالجامعة ( أين ظهرت المعارضة في شكل تيارات أديولوجية ) ثم بينها و بين المركزية النقابية ثانيــة ( أحداث 1978 ) إضافة إلى ما طرأ من أزمات في العلاقات مع ليبيا سرعان ما جعل النظام يجعل من أولـوياته هاجس " الأمن و الاستقرار " و قد ترجم ذلك في خطابه من خلال مـقولات " الاستقرار و الاستمرار " و " مناعة تــــونس " و أصبحت بذلك أديولوجيا النظام تقوم بدور وظيفي في تبرير القمع بتكامل مع دور أجهزة البوليس في تصوير كلّ معارضة باعتبارها فئة خارجة عن الإجماع الوطني تشكل تيارات هدّامة تحركها أيادي خارجية تستهدف تقويض أركان النظام القائم و سلطة رئيسه .



إن بنية النظام بما تميزت به من أديولوجيا أمنيّة خلّـفت فراغا أديولوجيا ، فتح الباب على مصراعيه للتيارات الأديولوجية التي ازدهرت سوقها خاصّة بالوسط الطلابي و التلمذي - إلى حدّ ما - و تحولت الجامعة أواسط الستينات إلى معقل المعارضة التي تنتدب كوادرها أساسا من طلبة الجامعات .



· خطّة النظام في مواجهة الزخم الأديولوجي :



لم يكن لنظام بورقيبة و لا نظام بن علي بما تميز به من فراغ أديولوجي قادرين على التصدّي للتيّارات الأديولوجية المعارضة التي اكتسحت جماهير الطـــلبة و جزئيا بعض القطاعات الأخرى من تلامذة و عمّال و نقابيين إلاّ باعتماد القمع في التعامل معها و باللجوء إلى جهازي البوليس و القضاء الذين يقعان تحت وصايتهما إضافة إلاّ فرض رقابة شديدة على الصحافة و الثقافة - بداية من العروض السينمائية و المسرحية و معرض الكتاب - و ذلك قصد مقاومة رواج مقولات الخطاب الأديولوجي لتيارات المعارضة .

و لم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل تجاوزه لتتحولّ الخيارات في التعليم و التربية أداة لمقاومة أديولوجيا المعارضة .

فقد عمدت السلطة في عهد بورقيبة ثم في عهد بن علي إلى مراجعة البرامج التعليمية التربوية تحت شعار " إصلاح التعليم " و كان ما عرف ببرنامج مزالي الذي طرح باسم النظام في بداية السبعينات معالجة ما أسماه " التخمة الأديولوجية " و ذلك عبر مراجعة برامج التعليم خاصّة في مادّة الفلسفة بإلغاء الدروس الخاصّة بالأفكار الاشتراكية ، في حين تمت محاولة إحياء التعليم الزيتوني و بعث كتابة دولة خاصة به سميّ على رأسها محمود شرشور.



و في ذات السياق أي التصدي للأديـــــولوجيا التـي يروج لها التيار الديني ( الاتجاه الإسلامي ) جاء برنامج " إصلاح التعليم " للوزير السابق محمد الشرفي الذي وُصف بالبرنامج الاستئصالي أو " تجفيف المنابع " و بدا هذا البرنامج في ظلّ انطلاق حملة قمعية واسعة على الحركة الإسلامية جزءا من صراع أديولوجي خاضه أحد رموز اليسار سابقا بالوكالة عن النظام .



· انشغال تيارات المعارضة بالصرّاع الأديولوجي :



و على خلفية الفراغ الأديولوجي الذي ميز بنية النظام البوليسي بتونس و قصور مقولات خطابه عن تعبئة الجماهير و طرح المشاريع الكبرى التي تجعل الشباب خاصّة ينخرط فيها كانت المـــعارضة تنتعش من تيّارات فـــــــكرية و أديـــولوجيات لها امتداداتها خارج الوطن توفرّ لها الأدبيات و المؤلفــات ( شيوعية - إسلامية حسب الظرف الدولي ) في وضع مريح إلى حدّ ما مقارنة بوضع السلطة جعلها تشعر بالرجحان في هذا الصرّاع .

و بتوسع مجال تأثيرها الأديولوجي على إعداد و حتى قطاعات متزايدة من الجماهير كانت تتصرف و كأن المعركة بينها و بين النظام من جهة و بين خصومها الأديولوجيين من جهة أخرى هي معركة أديولوجية بالأساس وهو ما حجب عنها الأفق السياسي الذي لم تتقدم نحوه و بقيت بذلك السلطة في موقع يسمح لها بحسم الصراع لفائدتها عبر الوسائل القمعية و جعله لا يتعدى نطاق الأديولوجيا دون السياسة .

و لأن المقولات الأديولوجية تتحول في نظر المروجين لها حقائق مطلقة فإنها تجعلهم يندفعون إلى مصارعة خصومهم من القائلين بمقولات مغايرة و استنزاف الوقت و الجهد في صراع المفاهيم و التصوّرات و ذلك حتى صلب التيّار الأديولوجي الواحد الذي يتفرع إلى حركات متمايزة منشقة و مختلفة في شأن بعض التـــصورّات و الطروحات ( اشـتراكية ديمقراطية و اشتراكية علميّة و شيوعية ، قومــــيون و بعثيون إخوان حزب التحرير التفكير و الهجرة ) و جماعات أخرى عديدة .



كما أن الدوغمائية أو اليقينية تجعل تلك التيّارات تطمح في توحيد أفـراد الشعب و فئاته على أفكاره و بالتالي تصبح في تصورها الأديولوجيا و السياسة شيئا واحدا ، فالتجانس الأديولوجي يصبح طريقا للتوحدّ السياسي و بذلك تعالج الإشكاليات السياسية نهائيا و صبرة واحدة !



· البحث عن المكاسب " الأديولوجية " :



و يمكن القول أنه و على مدى ثلاثين سنة أو أكثر بقليل لم تتخط تيّارات المعارضة بتونس الطرح الأديولوجي و ذلك في علاقة سواء مع السلطة أو فيما بينهما ، حتى أن الصراع بينهما أصبح رهانه كسب مواقع داخل المنظومات الأديولوجية المختلفة ، فالماركسيون العرب أصبحوا يقولون بالنضال من أجل تحقيق الوحدة العربية مما أوّله القوميون على أنه كسب لهم في حين اعتبره الماركسيون سقوط أي مبررّ لوجود القوميين كتيّار مستقلّ مستقبلا ، و كذلك الشأن بالنسبة لبعض اليساريين الذين قبلوا بجعل مسألة الدفاع عن الهوية إحدى المقولات التي أدمجوها بخطابهم ، فقد اعتبرهم بعض الإسلاميين يسارا مناضلا من أجل تحرير الأمّة .



· التقييم الأديولوجي و حدوده :



و هكذا جعلت المعارضة من " الفتوحات " الأديولوجية هدفا لها استغرق النصيب الأكبر من جهدها و طاقاتها .

كما أن النزاع بين فصائل المعارضة كثيرا ما يدور بوسيلة التقييم الأديولوجي باللجوء إلى الأوصاف و التصنيف كالرجعية و الظلامية و العلمانية الألحادية الخ..

و حيال السلطة أيضا لم يكن التقييم يختلف لدى المعارضة في طبيعة خلفيته التي كانت هي أيضا أديولوجية إذ قبل شق منها التحالف مع النظام لضرب شق آخر من منطلق أديولوجي كذلك عول النظام على كسب هذا الشق ليس بتقديم تنازلات سياسية و إنما " أديولوجية " من صنف اعتماد رؤية الهلال في تحديد بداية رمضان ، و بث آذان الصلاة عبر أمواج الإذاعة .

لم يكن إذن طرح المعارضة يقوم على تحقيق مهام المرحلة أو الظرف وفق خطّة سياسية تحددّ المشترك من الأهداف التي تفرض تغييرا حقيقيّا غير قابل للارتكاس في طبيعة النظام البوليسي و بنيته القمعيّة .

لذلك كان سهلا على نظام بن علي و بعد فترة وجيزة أوهم فيها الجميع بـــأن " تغييرا سيحصل " العودة إلى إدارة شؤون بالبلاد بواسطة البوليس السياسي و لم يكن بإمكان المعارضة التصدّي له بل و بعد قضائه على وجودها التنـــظيمي و محاكمة أتباع أكبر فصيل فيها ( حركة النهضة ) طوى نهائيا صفحة " التغيير " الذي بدا كخدعة لم يكن للمعارضة الأدوات السياسية الضرورية لمنع حصولها لتبدأ مرحلة جديدة كانت المبادرة فيها لبن علي و أجهزته التي يشكل البوليس السياسي نواتها لينفرد بكلّ تنظيم أو شخصية " غير منسجمة " في جولات اختار لها توقيتها ليمارس عليها قمعا شديدا و مستمرّا سعى بواسطته إلى تدمير أي أثر لحياة سياسية أو حتى جمعياتية حرة بالبلاد حتى تحوّل الخوف من قمع البوليس هو الذي يحكم و إلى حدّ بعيد علاقة المجموعات بمختلف أصنافها أو الأفراد بالنظام القائم .



و تبقى الأسئلة مطروحة اليوم على النخبة بمختلف أطيافها الأديولوجية : وهي كيف نبني نظاما سياسيّا على أنقاض نظام بوليسي امـــتدّ عمره حوالي خمسين عاما ؟ كيف نجعل العلاقة بين التونسي و النظام علاقة سياسيّة و ليست يحكمها الخوف من بوليسه ؟ كيف يصبح التونسي مواطنا يمارس حقوقه و يختار نظام الحكم في بلاده ؟ الآن و قد وقفنا على قصور الطرح التنظيمي ثم الطرح الأديولوجي كيف يكون الطرح السياسي ؟

· السياسة و المحظور :

لم يكن بورقيبة يتحرج من القول بأن السياسة هي اختصاصه المطلق دون سـواه و أن الخوض فيها يعدّ من المحظورات طالما بقي على قيد الحياة، و هذا كان مضمون جوابه تحديدا في خطاب ألقاه سنة 1971 جوابا على تصريح أدلى به وزيره السابق أحمد المستيري إلى صحيفة " لوفيقارو " الفرنسية إثر انعقاد مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري بالمنستير ، أشار فيه إلى وجود خلاف أديــولوجي و سياسي مع شق الهادي نويرة الذي تدخل بورقيبة لفرضه في المناصب القيادية للحزب بالرغم من هزيمته في انتخابات اللجنة المركزية ، بورقيبة تساءل بصيغة انـــكارية : " أتوجد خلافات سياسيـــة و أيديولوجية ولست أدري ماذا و أنا بقيد الحياة ؟ "[1][1] [2]



أحمد المستيري ذاته الذي أسس فيما بعد صحبة نفر من المثقفين حركة الديمقراطيين الاشتراكيين سنة 1978 قررّ الانسحاب من الحياة السياسية و تخلى عن رئاسة الحركة بعيد انقلاب 07 / 11 / 1987 بعد أن أدرك أن السياسة لم تسقط من قائمة المحظورات حتى في ظلّ " العهد الجديد ".



و إذا كان بورقيبة ينطلق من تصوير دوره في حصول البلاد على استقلالها على أنه انجازا فرديّا و شخصيا و صفقة فاز بها دون سواه أكسبته الشرعية التاريخية التي تحرّم في نظره وجود منافس له ما بقي حيّا فإن تحريم السياسة من طرف بن علي مردّه على الأرجح عدم قدرته على المنافسة السياسية وهو الذي لم يسجل في رصيده أي تجربة سياسية سابقة إذ لم يكن له انتماء حزبي بقدر ما كان رجل الأجهزة القمعية التي تعـاظم دورها مع اشتداد أزمة النظام و أتت في النهاية على سلطة بورقيبة في انقلاب 07 / 11 / 1987 .

و قبل الخوض في الإشكاليات التي طرحتها التجربة السياسية بتونس نرى أنه من المفيد توضيح مفهومنا للسياسة .



· في مفهوم السياسة :

السياسة فعل في شبكة العلاقات التي تقيمها السلطة القائمة مع مختلف الكيانات السياسية أفرادا كانت أم جماعات داخليّا و خارجيّا ( دول ، أحزاب ، منظمات ، هيئات ، مؤسسات ، مواطن الخ..) يرمي إلى الإبقاء عليها ( وهو هدف السلطة ) أو تعـديلها أو تغييرها ( هدف العارضة ) و هذه العلاقات تسير وفق أطر و قواعد ( قوانين ، معاهدات ، خيارات ثابتة نسبيّا ) تحكمها رؤى و تصورّات قد تكون غير مطابقة مع ما يرّوج له بالخطاب السيّاسي .

و تتخذ هذه الشبكة من العلاقات في الواقع شكلا مميزا يضفي الخصائص و الطبيعة التي تعطي الوصف لنظام الحكم ( ديمقراطي ، دكتاتوري ، أو توقراطي استعماري ، عنصري الخ..) .

و يختلف الطرح السياسي عن الطرح الأديولوجي من وجه أن السياسي و إن انطلق من رؤى و تصورات إلاّ أنها تفتح مباشرة على ما هو عملي و إجرائي قصد الفعل في الأطر و القواعد التي تحكم العلاقة بين السلطة و الأطراف الأخرى و تغيير أنماطها و تعديل أوضاعها في حين أن الطرح الأديولوجي ينزع إلى المعالجة النظرية لإشكاليات عقائدية بالأساس .

لذلك و إن ينطلق عمل السياسي من تقييم الممارسات و الإجراءات التي تشكلّ مضمون الحياة السياسية فإنه يستخرج منها الثوابت التي تتـــأسس منها الرؤى و التصورّات العامّة و التي تعطي الوصف المميز للنظام السياسي أو هويته .

و سنعتمد فيما يلي منهجا يحاول كشف الرؤى و التصورات التي حكمت العلاقات بين السلطة و القوى الغربية من جهة و السلطة و المواطن من جهة أخرى عبر تحــليل الأطر و القواعد التي وضعت لتحددّ مسارها .



الفصل الأوّل : في العلاقة بين النظام السياسي بتونس و الدولّ الغربيّة



· نمط العلاقة القائمة بين النظام السياسي بتونس و الدول الغربية الحليفة :

قد يسأل البعض لماذا آثرنا أن نبدأ بتناول هذه العلاقة و الجواب واضح وهو أن النظام السياسي في تونس لم ينبثق سنة 1955 من رحم المجتمع بقدر ما كان و إلى حدّ كبير عبارة عن كائن خارجي ( Un Corps exogène )تمّ زرعه بجسم المجتمع بإرادة مزدوجة غربيّة خارجيّة و وطنيّة محليّة ( بورقيبة و شق من قيادة الحزب الحرّ الدستوري ) ممّا جعل هذا الوصف يحددّ طبيعة العلاقة بين السـلطـــة و المجتمع .

- لقاء بورقيبة / منداس فرانس : أيّ مفهوم حكم قيام النظام الجديد ؟

جاء في رواية بورقيبة للحوار الذي دار بينه و بين منداس فرنس رئيس الحكومة الفرنسية خلال اللقاء الذي جمع بينهما سنة 1954 أن الوزير الأولّ الفرنسي خاطبه قائلا : " إن فرنسا وضــعت ثقتها فيك " فأجابه بورقيبة " أرجو ألاّ تنـدم على ذلك J'espère qu'elle ne le regrettera pas "

فهذه التزكية من المستعمر السابق لزعيم سياسي لم يكن وقتذاك قد تقلدّ مسؤولية سياسية بالدولة التونسية تعبرّ عن عدم تخلي السلطة الاستعمارية عن مفهوم الوصاية الذي قام عيها نظام الحماية بتونس و ذلك عبر التأسيس لشرعية دولية خارجية تمهدّ للشرعية الداخلية الوطنية و هذا الواقع جعل الزعيم المرشح لتسلم مقاليد السلطة الجديدة يشعر أنه يجمع بين شرعية وطنية و شرعية دولية ينفرد بها بما هيأ الشروط الموضوعية لبناء سلطة لا حدود لها تتــمحور و إلى حدّ بعيد حول شخصه .

كما لابدّ من التذكير بالظرف الدولي الذي قام فيه نظام الاستقلال بتونس و الذي كانت تحكمه الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي و الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدّة الأمريكية ، و سعي كلّ منهما لاصطفاف الدول الحائزة حديثا على استقلالها إلى جانبه في هذه المواجهة ، وهو ما تولدّت عنه حركة من الانقلابات و الانقلابات المضادّة في دول العالم الثالث كان فيها لأجهزة المخابرات للدولتين العظميين الدور الكبير .

حتى أن عديد الأنظمة السياسية الحديثة فيما أصبح يطلق عليه بالعالم الثالث أصبحت ترى في الدعم و السند الخارجي بديلا لدعم القوى الوطنية الداخلية التي تقلص دورها إلى الحدود الدنيا في نظر السلطة الجديدة التي أصبحت تتعامل معها بكثير من الاستعلاء و فرضت عليها لعبة الولاء المطلق بما نال من مصداقيتها شيئا فشيئا ؛ أمّا من رفض منها الدور المتذيّل فمصيره القـــــمع و الإقصاء[2][2] [3] .

لذلك كان الظرف يسمح للزعيم بأن يتعلل بوجود الخطر الشيـــوعي الخارجي تارة و خطر التيّار القومي العربي تارة أخرى لإقامة سلطة دكتاتورية تقصي كلّ معــارضة و تمنع قيام أي منافسة بين حزبه و غيره من المعارضين .

و بدا خلال تلك الحقبة أن الدعم الخارجي هو العنصر الأكثر فاعلية و حسما في قيام الأنظمة بالعالم الثالث و بقائها و التي انخرطت و إلى حدود كبيرة في لعبة التوازن الاستراتيجي للمعسكرين الرأسمالي و الشيوعي آنذاك .

و هكذا تشكّل نمط العلاقة مع الدول الغـربية ( فرنسا و الولايات المتحدّة الأمريكية أساسا ) من مفاهيم هي مزيج من الوصاية الاستعمـارية و الاصطفاف ( أو التحالف ) المرتبط بمفاهيم الحرب الباردة وهو ما جعل النظام السياسي يقوم على شرعية دوليّة تجعله و إلى حدّ ما يشعر بأنه في غنى عن الشرعية الوطنية التي استعيض بها بما أطلق عليه " بالشرعيّة التاريخية " .

و بقي الاختلال في وضع العلاقة بين ما هو دولي و ما هو وطني قائما في عهد حكم بن علي و إلى اليوم وهو ما يعدّ إحدى ركائز النظام الدكتاتوري الذي يتعين معالجته مع الطرف الغربي الذي حان الوقت لتحميله مسؤولياته أمام الرأي العام جرّاء سياسته الخارجية التي تدعم النظام الدكتاتوري على خلفية من التصورات البالية التي ارتبطت بمفاهيم الوصاية و التحـالف و المرتبطة بالنظام الاستعماري و بالحرب الباردة كما سبق أن بيّننا .

و لم يعد خافيا اليوم و إثر أحداث 09 / 11 / 2001 هذا التفاعل الذي تبديه الدكتاتورية مع سياسات الدول الغربية الحليفة و الذي يؤكدّ انخـراطها المباشر في " الحروب الدولية " لاستعمالها كذريعة في قمع القوى الوطنية حتى أصبحت الحاجة إلى تلك الحروب تمليها وظيفة أصبحت مرتبطة ببقاء النظام و مقترنة به.

فبعد الحرب الباردة تجنّد نظام بن علي يتجندّ يطلق عليه " الحرب على الإرهاب"، بل إنه يــحاول إقنـــــاع الرأي العام الدولي بأن قمعه الداخلي إنمـــا



· في مفهوم الأمن :

علينا البحث في أسباب ظاهرة تسيّس جهاز البوليس الذي أوكل إليه معالجة الملفات السياسية و التعاطي مع المعارضة بالقمع و التعقب في حين تمّ خنق الحياة السياسية داخل النظام و إفراغها من أي مضمون تعددي حقيقي .

ثم كيف نفهم تعامل النظام مع التيارات المعارضة منذ قيامه عبر الملفات الأمنية و ما هو دور الحلفاء الغربيين في تشخيص " الأخطار المشتركة " و تحديد مضمون الأمن ؟



قد لا نخطئ إذا ما قلنا أن الدور الأساسي في تشخيص " الأخطار المشتركة " إنما كان يرجع إلى الدول الحليفة ( فرنسا ، الولايات المتحدة الأمريكية ) " فالخطر " الذي كان يتصدّى له النظام لم يكن محليّا و إنما كان دائما له امتداداته الدوليّة .

فقد اقترن قمع النظام القوميين العرب طيلة الستينات و بداية السبعينات بمقاومة فرنسا و الدول الغربية بزعامة الولايات المتحّدة الأمريكية لدور عبد الناصـــر في دعم الثورة الجزائــــرية و محاولاته في إقامة الوحدة العربية و التصدي لامتداد النفوذ السوفياتي بالمنطقة العربية .

كما اقترن قمع التنظيمات الشيوعية بمحاربة الخطر الأحمر و أخيرا اقترن قمع التيّار الإسلامي بمحاربة الأصولية و الإرهاب من طرف القوى الدولية و التصدّي " لتصدير " الثورة الإيرانية .



و أصبحت بذلك " المعارضة للنظام " ملفا أمنيا يعالج بواسطة البوليس السيـاسي و تتولى السلطة إخراجه بصورة تتطابق مع هاجس الدول الحليفة في مقاومة إحدى الأخطار التي تشخصتها و ذلك لتلافي الضغوط بل و للاستفادة بالمعونات الماليّة و العينيّة التي تقررّها للنظام .

و من نتائج تضخم الوظيفة القمعية للنظام التي تميزت بالاستمرار و الشمــولية ( قمع التيّار اليوسفي ثم التيّار القومي ثمّ التيار الشيوعي ثم التيّار الإسلامي ) أن احتلّ جهاز البوليس السياسي الدور " الاستراتيجي " و اكتسح شيئا فشيئا الفضاء الرسمّي داخل نظام بورقيبة على حساب حزب السلطة ( الحزب الاشتراكي الدستوري ) ثمّ قاد الانقلاب على نظامه صبيحة يوم 07 / 11 / 1987 .



· تشديد الصبغة القمعية للتشريع الجنائي :

أمّا على المستوى التشريعي فإن القانون الجنائي التونسي يعتبر من اشدّ القوانين قمعا خاصّة فيما يتعلق بالجرائم السياسية ، بل اشتدّت صبغته القمعية مقارنة بما كان عليه زمن الاستعمار الفرنسي و نشير بالخصوص إلى قانون الجمعيات المؤرخ في 07 / 11 / 1959 و إلى التنقيحات التي أدخلت على المجلّة الجنائية بموجب الأمر المؤرخ في 10 / 01 / 1957 الذي نقح الفصول 60 إلى 62 من المجلّة الجنائية و الذي أضاف أصنافا أخرى من جرائم الاعتداء على أمن الدولة الخارجي و قانون الصحافة المــــــؤرخ في 28 / 4 / 1975 و إلى التنقيحات التي أدخلت على المجلّة الجنائية سنـــتي 1993 و 1995 في اتجاه الترفيع في العقوبات وعدم السماح للقاضي بالنزول بالعقاب إلى مـا دون النصف و وجوب أن يشفع العقاب الأصلي بعقوبة تكميلية لا تقلّ عن خمس سنوات مراقبة إدارية و التوسيع في مجال اختصاص القاضي الجنائي لينظر في الجرائم المرتكبة خارج الوطن الـــخ … ( الفصول 52 مكررّ 131 و 132 و 133 من المجلّة الجنائية ).



· جعل القضاء تحت الوصاية :

و على مستوى القضاء فإن تضخم الوظيفة الأمنية للنظام و ما ترتب عليه من تعاظم دور الجهاز البوليسي حال دون بناء قضاء مستقلّ إذ لجأ النظام إلى بعث المحاكم الاستثنائية ( المحكمة الشعبية ، المحكمة العسكرية ، المحكمة العليا ، محكمة أمن الدولة ) التي لا توفرّ ضمانات المحاكمة العادلة ، ثم و حتى بعد إلغاء محكمة أمن الدولة في عهد بن علي فقد تمّ الإبقاء على جهاز أمن الدولة الذي يمارس في الواقع وصاية فعلية على القضاء الذي لا يجرؤ على مخالفة الأوصاف القانونية التي يعطيها للوقــائع التي كثيرا ما يلفقها و لا حتى تقدير صحّة أعماله ( محاضر ، إجراءات الإيقاف ، الحجز الخ.. ) التي كثيرا ما تكون باطلة بسبب تدليس البيانات المضمنة بها أو بإكراه الموقوف على إمضائها الخ..

و بدا واضحا أن القضاء تحوّل إلى مجرّد جهاز أوكلت له مهام هي أقرب إلى الإخراج القضائي ضمن دورة قمعيّة ينهض البوليس السياسي بالدور الرئيسي فيها - إذ يتولى أعمال الإيقاف و البحث و تكييف الوقائع طبق التعليمات الصادرة له من وزارة العدل في طور أولّ ثم تستغرق المحاكمة الطور الثاني - يسترجع إثرها البوليس السياسي الإشراف على السجين داخل السجن وهو الطور الثالث ثمّ و بعد خروجه عبر تنفيذ الحكم التكميلي المتمثل في المراقبة الإدارية وهو الطور الرابع ، و هكذا يبدو القضاء رهين تنفيذ دورة قمعية متعددّة المراحل لا يتولّى إلاّ مرحلة أو طورا منها .

و ما يجدر التنبيه إليه هو أن وضع الدول الغربية لبعض آليات المراقبـــــة و المحاسبة على العمل التشريعي و القضائي مثلما هو حاصل اليوم من خلال اللجنة الأمميّة لمناهضة الإرهاب التي شكلت بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1373 إثر هجمات 11 سبتمبر 2001 التي يتعين على كلّ نــظام تقديــــم و بصورة دوريّة عرض تقييمي أمامها حول ما اتخذته من إجــراءات تشريعية و قضائية لمقاومة الإرهاب وهو ما دفع بالنظام إلى التأثير على مجرى بعض القضايا التي أحيلت على المحكمة العسكرية و إيجاد الرابط بينها و بين تنظيم القاعدة قصد إقناع الجهات الرسمية الغربية بأن له دورا حقيقيّا فــــي مقاومة " الإرهاب " .

إلاّ أن واقع القضاء " العاديّ " الجزائي منه و المدني ليس أقلّ سوءا بعد أن خولّت السلطة التنفيذية دور الإشراف و الوصاية على القضاء وهو ما نشأ عنه قضاء مواز " خارج عن الشرعية بكلّ المعايير " حسب ما أكدّه القاضي المختار اليحياوي في الرسالة المفتوحة إلى رئيس الدولة بتاريخ 06 / 7 / 2001 يضاف إلى ذلك استشراء الرشوة و الفساد داخل أجهزة البوليس و القضاء .

و يستروج ممّا سبق عرضه أن القمع الذي كان دائما مسلطا على تيّارات المعارضة الوطنية لم يكن فقط بسبب نزوع السلطة إلى الاستفراد بالحكم و رفض التداول عليه ، و إنما أيضا نتيجة الاستجابة إلى إرادة الدولّ الغربية في فرض تصوّرها للأمن و تشخيص الأخطار - من جانب واحد - بما ساهم عمليّا في تشديد الميزة القمعيّة لتشريع الجنائي الوطني و فقدان القضاء لاستقلاله كما تقدّم بيانه .

و كما أسلفنا الإشارة إليه فإن مفهوم الأمن ارتبط بمفهوم " التعاون " وهو كما أراده واضعوه تعبيرا عن المظهر الثاني من العلاقة بين النظام و الغرب و الذي استجاب لحاجة النظام من المساعدة الماليّة و الاقتصادية مقابل ما يقدّمه من خدمات أمنيّة لصالح الدوّل الغربيّة .



· تقييم نتائج " التعاون " :

على أن ما يتعيّن ملاحظته هو أن ذلك التعاون بما يوفره مـن موارد للنــظام و يساهم بقدر ما في ترسيخ ظاهرة الريع السياسي ( La rente Politique ) ذلك أن السلطة تحوّل النفوذ إلى مصدر إثراء و ذك عبر التصرّف في المساعدة الخارجية بواسطة القروض البنكية و تمكين البطانة و الموالين لها من حصتهم في تلك القروض كلّ حسب موقعه من السلطة و علاقته بالمتنفذين بها .

و هذا الوضع حال دون ظهور المؤسسة الاقتصادية بالمعنى المتعارف عليه بالغرب إذ يكون قيامها ليس على أساس المبادرة الخاصّة من الفاعلين الاقتصاديين و إنما هي في نشأتها إفراز لظاهرة سياسية بالأساس وهي تبقى نتيجة ذلك مرتبطة بالسلطة التي يطب منها من حين إلى آخر التدخّل قصد صرف مزيد القروض بواسطة الجهاز المصرفي حتى يكتب لها البقاء طالما أن بعثها لم يكن على اساس معايير الجدوى و المردوديّة .

و من خلال ما تقدّم عرضه يمكن القول بأن البنية القمعيّة لنظام تستمّد أحد أهّم أسبابها من نمط العلاقة التي أقامها الغرب معه بما يحتم مراجعة المفاهيم التي تحكمها و تدارس سبل تعديلها عبر التخلي عن مقايضة الأمن بالتعاون على مستوى الأنظمة دون التفات إلى نتائج ذلك على حريّة المواطن و حقوقه الأساسيّة الذي دفع و لازال يدفع ثمن تلك المقايضة .



الفصل الثاني : طبيعة علاقة السلطة بالمواطن



أسست السلطة " الوطنية " منذ قيامها علاقة تحكمها مفاهيم سلطويّة استعلائية تبررّ التسلط و استنقاص كرامة المواطن و عدم الإقرار له بالمواطنة الكاملة .

فالسلطة التي " حرّرته " من الاستعمار شرعت في تنفيذ ما تصورته مشروعا جديدا هو " تحريره من التخلف " و هذا التخلف هو في نظرها عميق و شامــل ( يتطلب اعتماد مخطط " للتنمية الشاملة " ) بــما يبررّ سياسيّا إخضاع المواطن و تحويله إلى مجردّ صوت للولاء و التأييد و شرع لإقامة نظام دكتاتوري عبر الترويج لفكرتين أساسيتين :

أوّلا : فكرة " الزعيم المحرّر " و " القائد " الملهم الذي لا يساوي ذكاءه أحد و لا يبلغ المرء مكانته في سلم الخصال السياسية من بعد نظر و حكمة و نبوءة فلتة دهره و فريد عصره الخ… لذلك فهو لا يقبل الدخول في منافسة مع غيره و إن أحدا تجرأ على مجردّ الإعلان عن نيّته في الترشح يستهدف إلى التهجمّ و التحقير ( مثلما حصل للسيّد الشاذلي زويتن زمن حكم بورقيبة ) أو إلى السجن مثلما حصل في ظلّ حكم بن علي لمن تجرأ على ترشــيح نفسه للانتخابات الرئاسية ( سنة 1994 ) بعد أن لفقت لهم تهم تتراوح بين الثلب ( الدكتور المنصف المرزوقي ) و التحيّــل و التدليــس ( الأستاذان عبد الرحمان الهاني و فيصل التريكي ) .

ثانيا : فكرة " عدم نضج الشعب " لممارسة حقوقه و حرياته .

لذلك و من منظور موضوعي فإن علاقة الوصاية التي كانت سبب رفض المستعمر و قيام حركة التحررّ تمّ الإبقاء عليها مع اختلاف " المبررّات " أو المشاريع المسّوغة لذلك .

و في الواقع فإن السلطة " الوطنية " عملت على الإبقاء على هذا الاختلال الفادح في العلاقة مع المواطن و لم تسع إلى تغييرها .

لذلك أشاعت مناخا من الخوف و الترهيب بواسطة أجهزة القمع بما يؤبدّ ذلك الاختلال .

و لمّا كانت السلطة تعتقد في قرارة نفسها أن سبب وجودها ليس صـوت الناخب و إنما هو بفعل ما تديره من أجهزة قمعية و ما تناله من ثقة الدوّل الغربيّة التي تقدّم إليها التمويل و الدعم ، حرصت على تأمين ولاء تلك الأجهزة و إخـلاصها و إرضاء الجهات الدوليّة المذكورة .

و حتى الانتخابات التي تتولى تنظيمها من حين إلى آخر فهي لا ينظر إليها باعتبارها ممارسة لحق المواطن بل هي من قبيل الإخراج المقصود به التظاهر بتطبيق القانون و المعّد للاستهلاك الخارجي .

و في ظلّ هذه العلاقة المختلّة بين السلطة و المواطن فإن أخشى ما يخشاه الماسكين بزمامها هو انتقالهم إلى وضع " المواطن " العاديّ و الذي يعلمون الكثير عن حقيقة وضعه من حيث الحقوق و الحريّات .

و لنا في تجربة بورقيبة عبرة لمن يعتبر فالجميع كان شاهدا على انتقال الزعــــيم و المجاهد الأكبر من أعلى هرم السلطة إلى " سجين " سياسي دون الإقرار له بتلك الصفة مثلما حصل زمن النظام الاستعماري الفرنسي و قضى عقوبة بالحبس لمدّة ثلاثة عشرة عاما ( أي حوالي ضعف ما قضاه زمن الاستعمار ) دون محاكمة .

إنه في الواقع حكم سلطة الأجهزة القمعيّة التي أقامها و دعم وجودها معتقدا أنها ستؤمن " الاستقــــــرار و الاستمرار " لنظامه ( وهو الشعار الذي يروج له في آخر عهده ) .

و يمكن تلخيص جوهر العلاقة بين السلطة و المواطن بأنها تقوم على شعور متبادل بالخوف و في اتجاهين اثنين :

- خوف " المواطن " من السلطة التي تقمعه و ترهبه طالما أنه ليس سببا في قيامها و لم يتحولّ بعد إلى صوت ينتخب حقيقة .

- يقابله خوف السلطة من أن تصبح يوما ما " مجردّ مواطن " إذ عندها لا تفقد الحصانة فقط بل جميع الضمانات بما فيها المحاكمة العادلة لذلك شاهدنا ظاهرة فرار الوزراء السابقين عندما عزلوا من مناصبهم و أصبحوا " مجردّ مواطنين " إلى الخــــارج و تحولّوا إلى لاجئين سياسيين بالأنظمة الديمقراطية الغربيّة .

و هنا يظهر وجه الاختلاف بين المسؤول السياسي بالنظام الدكتاتوري و شبيهه بالنظام الديمقراطي .

فالمسؤول ببلادنا عندما " يخسر موقعه بالسلطة يتدحرج وضعه إلى ما دون المواطنة حيث يقبع عامّة الشعب فيعظم في تصوّره " الخطب " و يجعل من بقائه بالسلطة قضية حياة أو موت .

في حين يحافظ المسؤول بالغرب بعد نهاية مدته النيابية على حقوقه و يبقى مواطنا مكفول الحقوق .



الفصل الثالث : التحديّات و المعيقات في بناء البديل الديمقراطي



يتضح ممّا تقدّم عرضه أن بناء البديل الديمقراطي يقتضي الأخذ بمفاهيم بديلة عن دور الدولة و وظيفتها و موقعها من المجتمع و القوى و التيّارات التي تنبثق منه ، كما يقتضي و على مستوى عملي إعداد برنامج إصلاحي يعالج الوضع البنيوي للدولة بما يحقق الشروط الموضوعية لإنجازه .



1 صراع المفاهيم :

من الخطأ الاعتقاد بأن التحول الديمقراطي يمكن إنجازه دون خوض صراع مفاهيم تجـلى معالم الرؤى التي كانت وراء قيام النظام الدكتاتوري بتونس وهي و كما شرحنا فيما تقدّم من هذا المقال عبارة عن مزيج من نظام الوصاية الاستعمارية الذي يضع نفسه فوق المجتمع و خارجه في آن واحد وهو أيضا نظام مقترن بفكرة " محاربة الأخطار " التي تشخصها الدول الغربية " الحليفة " بما حولّه إلى نظام بوليسي لا ينتهي من محاربة تيّار معارض إلاّ ليشرع في محاربة تيّار آخر .

كما أنه من الخطأ الاعتقاد بأن هذه المفاهيم كانت حكرا على السلطة و إنما شكلت في الواقع إرثا مشتركا للحركات السياسية بتونس إذ ظهرت بوادر هذه المفاهيم في تصورّات حركات " المعارضة " بالدعوة إلى إقامة بدائل هي أيضا تنطلق من فكرة تحرير المجتمع و تخليصه سواء من الاستغلال أو الهيمنة أو من النزعة القطرية للسلطة أو من علمانية الدولة الخ ...

إن فكرة الوصاية تقوم على نقيض فكرة المساواة بين المواطنين و تؤسس لعلاقة تسلطيّة يحتلّ فيها السياسي مكانة متعالية لا تتماشى مع مبدأ المساواة بينه و بين بقيّة التيارات السياسية أو بينه و بين المواطن بصورة عامّة .

لقد آن الأوان للتخلي عن جميع المبررّات التي تجعل الدولة جهازا خارج المجتمع يحمل لواء رسالة تحرير أفراده و انتزاع وكالة عنهم بواسطة قوّة أجهزة الدولة .

لقد أثبتت التجربة أن الفكر الوصائي أدّى إلى قمع النظام للمواطن الذي هو حسب تصوّر حملته مصاب بمرض اسمه حسب الأحوال تخلف أو عبوديّة أو فقر أو غيره من الانحرافات و أدّت إلى فشل المشروع فتحولّت الاشتراكية إلى " اشتراكية دون اشتراكيين " و " القومية " إلى " قومية دون قوميين" الخ…

و لابدّ من تسجيل فشل الحركات التي حملت مشاريع تحررّ جماعية طبقية أو وطنية بعد أن جعلت من التنظيمات و الأحزاب التي بعثتها البديل عن الطبقة الكادحة أو الشعب بما جعلها تنتهي إلى مأزق عالجته بالقمع بعد أن عزت أسباب الصدام بينها و بين الشعب إلى قوى خارجية و عملاء بالداخل إلى أن انهار النظام الحزبي القمعي الذي أقامته .



· في مفهوم النظام الديمقراطي :

إن الفكرة الديمقراطية البديلة تنطلق من مبدأ المساواة بين المواطنين و أن المواطن هو كائن حرّ لا تقوم الدولة بتحريره أو تخليصه و إنما تنظم ممارسته حريته و حقوقه ، و بالتالي لا مجال للوصاية أو التعالي عليه مهما كانت المبررّات الأيديولوجية .

و لابدّ من التنبيه أن مقاييس التحررّ المكرس اليوم لم تعد تقدر بالرجوع إلى أحوال أمّة كاملة أو طبقة و إنما إلى المواطن الفرد .

و من هذا المنطلق تتحولّ السلطة السياسية إلى أداة لتنظيم تعايش و تنافس القوى و التيارّات السياسية التي تنبثق من المجتمع وفق حركته الطبيعية دونما قمع أو تصدّ منها إلاّ في حدود القانون و بما يضمن العمل بقواعد التنافس السلمي .

و تتحولّ بذلك وظيفة الدولة في جانبها السياسي إلى وظيفة إجرائية تقتصر على التصرّف في قوى المجتمع بما يفسح المجال لها للعمل و اختبار شرعيتها عبر تنظيم انتخابات حقيقية إنه دور متواضع يتناسب مع فكرة المساواة و كفيل في الآن نفسه بتوفير الضمانات لعدم النيل منها و انتهاك القاعدة المتصلّة بها .

لذلك فإنه يجب التنبيه إلى خطورة الفكر الوصائي مهما كانت مشاربه و خلفياته العقائدية بل و يجب التحذير من سلوك ممن لا يعرف عنه انتماؤه إلى تيّار إيديولوجي وهو يوظف علاقاته ببعض الأوساط السياسية الغربيّة متوهما أن ذلك يكسبه صفة الخبير و " المحترف " في الديمقراطية يوزع الأوصاف على هذا دون ذلك بحثا في الواقع عن إقصاء خصومه .

كما يتعين مقاومة الفكر الوصائي للنظام و ما يروج له من أســـاطير التفوق و النبوغ الذي يتميز به من يوجد على رأسه بما يجعله وصيّــــا على الشعب " يرشده و يوجهه " و يقود مسيرته نحو النموّ و الرفاه و يقصي من لا يجاريه في مشاريعه و رؤاه .

إن مقاومة أفكار الوصاية و الإقصاء التي قامت عليها الثقافة السياسية للدكتاتورية و التي شملت إلى حدّ كبير أيضا بعض التيارات السياسية المعارضة و الترويج لأفكار المساواة و تأصيل دور الدولة و جعل السلطة تنبثق من المجتمع وفق تطوره الطبيعي تدير حركة قواه بما يمهّد لتأسيس نظام ديمقراطي تعدديّ حقيقي .



2 البرنامج العملي :

و كما أن النظام الدكتاتوري هو مفاهيم منحرفة و مضللة تـــــؤسس للتسلط و القمع فهو أيضا بني و أجهزة لا تتناسب لا في وظيفتها و لا في حجمها مع المجتمع و حاجياته .

لذلك فإنه مطروح على الحركة الديمقراطية الاجتماع قصد اتخاذ تدابــير عمليّة و إجرائية من شأنها تهيئة الشروط و إعداد الظروف لقيام البديل الديمقراطي .

و في هذا السياق نقترح بعض الإجراءات :

· مراجعة نمط العلاقة بين النظام و الدوّل الغربية و إنهاء العمل بنظام المقايضة بينهما الأمن مقابل المساعدات .

· إنهاء الاختلال في التوازن بين السلط و الحدّ من طغيان سلطة رئيس الدولة اللاّمحدودة .

· حلّ جهاز البوليس السياسي .

· تحرير ميثاق شرف للتعامل الديمقراطي بين التيارات الفصائل السياسية الوطنية ينبذ اللجوء إلى العنف اللفظي أو الماديّ هذا و إن التقيّد بمضمون هذا الميثاق سيكون اختبارا للقوى السياسيّة الوطنيّة استغناء عن قمع جهاز البوليس في تنظيم الحياة السياسيّة .

· إطلاق سراح المساجين السياسيين .

· إطلاق حريّة التعبير و الصحافة .

· تخلي النظام و حزبه عن العمل الخيري ليصبح من اختصاص المجتمع المدني المستقلّ .

· تأمين استقلال القضاء عبر تدابير عملية و رفع الوصاية عنه .

· اتخاذ تدابير تؤمن فصل الاقتصاد عن السياسة و إنهاء ظاهرة الريع السياسي .

· مراقبة استعمال المساعدة الخارجية و العمل دون توظيفها لمآرب سياسية حزبية أو فئوية .



هذه بعض الإجراءات التي من شأنها تهيئـة الظروف للانتقال نحو النظام الديمقراطي التعددي و يمكن تصورّ غيرها من الإجراءات و التفصيل فيها من طرف القوى الديمقراطية وهو ما يدعو إلى تنشيط الحوار بينها ضمن أطر متعددّة ( وسائل الإعلام ، ندوات ، انترنيت الخ… ) .

و نريد أن نؤكدّ في خاتمة هذا المقال أن البديل الديمقراطي لن يتحقق إلاّ متى تحولّ إلى قضية وطنيّة لدى جميع القوى السياسية بالساحة تسمو عن كلّ الحسابات الحزبية الضيقة و الطموحات الشخصية الخاصة و متى تمّ التخلي عن المعالجة التنظيمية أو الإيديولوجية للمسائل السياسية التي تتطلب علاجا على مستويين اثنين مستوى يتعلق بالمفاهيم المؤسسة للنظام الديمقراطي و ضرورة الأخذ بها و مصارعة مفاهيم نظام الوصاية و الإقصاء أي نشر ثقافة سياسيّة ديمقراطيّة و مستوى عملي إجرائي يهيئ لقيام النظام الديمقراطي عبر حلّ الـبنى و الأجهزة التي يقوم عليها النظام الدكتاتوري و إنهاء وجودها . و الله أعلم .












الأستاذ عبد الرؤوف العيادي

نائب رئيس المؤتمر من أجل الجمهورية






[1][1][2] كان بورقيبة يعتبر أن أي معارضة أو شكل احتجاج على سياسته هو مـن باب نكران الجميل و أن له دينا على الشعب بعد أن حررّه من المستعمر بل أكثر من ذلك حوله إلى أمة و قد كان عبارة عن " غبار من الأفراد " ( Poussière d'individus ) !



[2][2][3] في إطار هذه العلاقة تتنزل التحالفات و الصدامات المبكرّة التي حصلت بين السلطة الحديثة و الاتحاد العام التونسي للشغل .

كـــان في سياق بعد النظر و الإدراك المبكرّ للأخطار القادمة وهو يريد بذلك تبرير انحرافه و جرائمه في حق المواطن المسالم و الظهور بمظهر الشريك إلى جانب القوّة العظمى فـي سياسات و خيارات يعلم الجميع أن لا دور له في رسمها أو المساهمة فيها إلاّ كمنفذ لإرادتها طلبا لمزيد من الدعم في مواجهة تنامي المعارضة الداخلية و استفحال أزمته .

و لمزيد استيعاب هذه العلاقة بين الدكتاتورية المحليّة و الأنظمة الغربية الحلـيفة و التي أوجــــد لهــا إطارا مـفهــوميا أطلق عليه " الأمن و التعاون " La Sécurité et La Coopération نحاول تقييم ما أفرزه العمل بهذا الزوج من المفاهيم من واقع الدكتاتورية و الوقوف على أثاره السلبيّة

ليست هناك تعليقات: