الديمقراطية في امريكا (1) - هشام جعيط
قراءة لتوكفيل
إننا كعرب ومسلمين مبهورون بامريكا بصفة مبالغة، كما كان أسلافنا في القرن التاسع عشر مفتونين باوروبا، بانكلترا وفرنسا علي الاخص. لكنا في كلتا الحالتين لا نعرف الا القليل عن القوي المتفاعلة داخل هذه البلدان في مجالات السياسة والمجتمع والثقافة وعن جذورها في التاريخ الحديث.
فالمعروف عن امريكا زيادة علي القوة العسكرية والثروة، أنها بلد الديمقراطية الكبير الذي يطالب بتطبيق مبادئ حقوق الانسان.
لكن ما هو أصل هذه الديمقراطية وما هو شكلها وبما تتميز به وتختلف به عن الاشكال الاخري؟
هذا الموضوع طرقه مفكر فرنسي توكفيل، في المنتصف الاول من القرن التاسع عشر بنظرة ثاقبة من الخارج والداخل معا، في كتاب مشهور هو حول الديمقراطية في امريكا .
الكتاب كتاب عظيم ويستحق التنويه اكثر مما نوه به الفرنسيون والامريكان من بعد، فهو الذكاء بعينه ونصاعة الرؤيا والكتابة والمقدرة الفائقة علي التحليل والتفسير.
وبحق يقول فرنسوا فور: إنه أفضل من رأس المال لماركس ومن لنظرية الفيلسوف الألماني في التاريخ البشري، لكن الناس مولعون بالتنظير العام وبالطوباويات، لأنها تفسح لهم مجال الحلم والامل، وليسوا مهتمين بصرامة تحليل الواقع. وعلي الرغم من أن كتاب توكفيل منبنٍ ضمنيا علي مقارنة بين اوروبا ما بعد الثورة الفرنسية وبين امريكا، يعني بين عالمٍ اختلطت فيه الارستوقراطية بالديمقراطية وبلد يمثل الديمقراطية المساواتية في صفائها، فإن امريكا وإن استهوت بعض الافئدة في تلك الفترة كانت هامشية بالنسبة لاوروبا ــ مركز العالم وقلب التاريخ ــ وبالتالي لا تجلب الاهتمام.
هذا ما يفسر عدم او ضعف تأثير هذا الكتاب الام في زمانه ومن بعد، علي أن الفرنسيين اعترفوا بنبوغ الرجل في حياته واعتبروا قيمة كتابه، انما ليس بالمقدار الذي يستحق، والآن حصل رجوع الي مؤلف توكفيل لانه وإن كتب في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر 1930 ــ 1935 فانه لا زال ينطبق الي حد كبير علي امريكا اليوم. وبما انه مزيج من التنظير والتحليل، فهو بمثابة فلسفة تاريخ للعصر الحديث في السياسة والمجتمع.
فالقدرة الفذة علي الملاحظة تدخل في دائرة نظرة عامة، وهي انتصار المبدأ الديمقراطي علي المبدأ الارستوقراطي، وأن الديمقراطية وهي المساواتية أساسا في رأيه هي مستقبل بل قدر الانسانية الجديدة. ولذا أخذ يبحث عنها في صفائها في امريكا حيث لم يحصل تعارض بين المبدأين، بل استقرت الديمقراطية من الاول دون مقاومة.
إن توكفيل ينتمي الي طبقة النبلاء، وقد عايش ابوه الثورة الفرنسية وكاد أن يعدم، لكن طفولته مرت في عهد نابليون وشبابه في عهد الملوكية المجددة 1815 ــ 1830 التي استعادت الي حد ما الارستوقراطية مع الإبقاء علي أسس الثورة والامبراطورية.
واذ يقول خوري ان فكره ينبع من تجربته الحياتية الاولي كمنتم الي طبقة النبلاء، فلن يكون هذا بصفة مباشرة وانما عن طريق أبيه واسرته، علما بأنه لم يكن من اكابر اسر النبلاء القديمة.
ولا اعتقد شخصيا بالتالي انه كان مكتسبا لأفكار جاهزة من سن مبكرة، فهو مثلا يعتبر في كتاب آخر مشهور عن الثورة ان الطبقة الارستوقراطية افتقدت كل دور من عهد ملوك الاطلاق. أعتقد ان نظرته أوسع من أن تكون مستقاة من تجربة وجودية، وأنها أساسا منبنية علي فكر الامور، مثلما وعكسيا أن ماركس لم يكن ينتمي الي الطبقة الشغيلة.
والديمقراطية في رأي توكفيل هي نظام سياسي وبالأخص اجتماعي يغدو بطول الزمن مزاجا وطبعا وأعرافا وتعودا وهذا ما حصل في امريكا وما انتظم اكثر بمفعول الثورة الامريكية التي انما كانت حركة تحررية.
والديمقراطية هي نفي لأية طبقة مهيمنة علي المجال الاجتماعي، وبالتالي لأية ارسطوقراطية وراثية او منغلقة عرقيا (مثال الهند) وبذلك فهي المساواة اكثر منها الحرية في الحقوق وحتي في الواقع.
هنا تكتسب ملاحظاته حول امريكا في تلك الفترة، أي بعد قرنين من الاستيطان ونصف قرن من الثورة علي الانكليز، كل وجاهتها، كما تنعكس هنا نظرته الي الثورة الفرنسية علي أنها ثورة المساواة التي أطاحت بأي تأثير للنبلاء، بل دمرت هذه الطبقة تدميرا وبعنف كبير أيام الارهاب إلا من نجا بنفسه وهاجر.
هناك لحظتان أسستا الولايات المتحدة الي حدود الفترة التي عايشها توكفيل: الهجرة الاولي لمجموعة البروتستان الطهوريين في اوائل القرن السابع عشر والثورة الامريكية في الثلث الاخير من الثامن عشر، وهي تحررية لكن ايضا في سبيل الحرية والمساواة.
الطهوريون أناس عرفوا القمع والتهجير في بلدهم الاصلي، انكلترا. وهم شديدو التشبث بمثلهم الدينية والاخلاقية ويمقتون بالطبع التعسف والاضطهاد. فهاجروا أولا الي هولندا حيث كونوا مجموعة أخوية صغيرة وفي لحظة ثانية الي امريكا، ولكن الهجرة الثانية كانت أمرا عظيما لانها تعني القطيعة النهائية مع الوطن، ومع أوروبا ذاتها ومع الأحبة الذين بقوا في العالم القديم. وهي بصفة من الصفات ليست فقط تمزيقا للأوصال، لكن موتا حقيقيا. ان هذه المجموعة نظمت حياتها حسب مثلها، ونظمت ذاتها بذاتها علي اسس جديدة بعيدة عن لعنة تاريخ العالم القديم. واذ طالعنا ما يطال المجموعات الدينية المضطهدة من انضباط اخلاقي شديد ومتعصب، واذ خضعت فيما بعد لسلطة ملك انكلترا بصفتها مستعمرة مع حريات كبيرة، فهي تمثل نواة وأصل الديمقراطية الامريكية لكونها لا تخضع في حياتها اليومية الا لنفسها، ولم تشأ أن تعطي لذاتها سيدا او أسيادا من ذويها. وهكذا وبدون فلسفة سياسية معلنة، كانت السيادة للشعب في الواقع أي للمجموعة المتضامنة وعندما تضخم العدد، صارت البلدة هي مرتكز وخلية المؤسسات والبلدة في انكلترا الجديدة او (التاونشيب) كانت تضم حوالي ثلاثة آلاف ساكن، لكن لها السيادة علي ذاتها، فهي بلدية ان امكن القول إنما ليس بالمعني المتعامل به اليوم. هي جسم انساني وجسم سياسي حيث أساس السلطة بيد المواطنين فعلا، الذين يجتمعون كلهم لانتخاب ممثليهم ومنفذيهم الذين يتولون ضروريات المعاش من قضاء وجباية وميليشيا.
أما عددهم فيناهز العشرين من المواطنين الذين لاحق لهم ان يرفضوا القيام بهذا الواجب ولا يتقاوضون راتبا وانما منحة حينما يقومون بعمل.
هذه أسس الديمقراطية الامريكية: وجود خلايا تسوس نفسها بنفسها وعن طريق ممثليها المنتخبين لمدة قصيرة، والساهرين علي ضرورات الحياة الجماعية. وهم لا يمثلون ارستقراطية ولا نخبة ما، بل كانوا متطوعين وأكثر فأكثر من شرائح فقيرة نسبيا.
واذ نجد فوق البلدة ــ البلدية وأوسع منها ما يسمي بالمقاطعة فهذه لا تمتلك في الواقع أية سلطة. وفوق ذلك نجد الدولة أي الجمهورية وقد قننها الدستور المنبثق عن الثورة لكنه لم يبدعها. الدولة في امريكا قبل الثورة وحتي بعدها هي ما نسميه الولاية وجمعها ولايات، لكن في الواقع لها السيادة كاملة من تشريع وقضاء وجباية وشرطة، ولها معني الدولة لاكتسابها لامكانية العنف الشرعي داخل حدودها. في مستوي التشريع تتمتع الدولة بكل الامكانات وبوجود مؤسسات: مجلس الشيوخ ومجلس الممثلين، وهي المستوي التنفيذي للحاكم (وليس للوالي) المنتخب كل الصلاحيات، والمؤسسات الامريكية تولي سلطة كبيرة للقضاء المنتخب وهو يتدخل في شتي الامور بما في ذلك الادارة وهكذا، اذا كانت الخلية القاعدية هي البلدية، فالسيادة الجهوية كانت بيد الدولة ــ الجمهورية بمؤسساتها المنتخبة وبالتالي الوقتية.
المهم في ملاحظات توكفيل وقد كتبها في 1830 أنها تنطبق علي الوضع الحالي كما تشهده مع تغييرات طفيفة.
فنحن من غير الامريكان سواء كنا عربا او اوروبيين متعودون علي مركزة السلطة، فلا نكاد نفهم مثلا كيف أن شيخ مدينة نيويورك يتحكم في بلديته كالملك، فهو الذي يقرر السياسة الأمنية والسكنية والمالية، وهو الذي قرر طرد ياسر عرفات منذ أمد ليس بالبعيد وقد أتي ليخطب في أعضاء الامم المتحدة. ولا نكاد نفهم أن الحاكم ــ الوالي له حق العفو في الاعدام وليس الرئيس الفيدرالي وأن قائد الشرطة والقضاة منتخبون وأن جامعة كاليفورنيا الشهيرة أسستها دولة كاليفورنيا وهي عمومية. ذلك أن الكيانات المحلية التي تسمي دولا هي دول فعلا وليست بالمقاطعات او الولايات، وهي معطي منغرس في التاريخ وفي العادات والذهنيات علي الرغم من تضخم الحكم الفيدرالي في القرن العشرين هنا نصل الي حكومة الوحدة المتمركزة في واشنطن والتي أقيمت زمن الثورة وبعدها بقليل عندما توحدت الاربع والعشرون دولة لمقاومة الانكليز.
والحكومة الفيدرالية تسمي نفسها كذلك ولا تتسمي بالدولة، ذلك أن صلاحياتها محدودة فلا تضم الا ما هو مشترك بين الدول القائمة وبين أعضاء الشعب الامريكي: السلم والحرب، العلاقات الدبلوماسية، الجباية. ومن المعروف أن هذا الحكم ذو رأسين او ثلاثة فهناك السلطة التنفيذية بأيدي الرئيس وهناك السلطة التشريعية بأيدي الكونغرس ولكل مؤسسة منتخبة ومستقلة عن الاخري. علي أن بينهما جسورا بخصوص الجباية وتسمية كبار الموظفين وقد كانوا قلة في فترة توكفيل.
هذا بخصوص المؤسسات. لكن هم توكفيل الاساس هو إظهار الوعي الديمقراطي والذهنية الديمقراطية لدي الجمهور الامريكي.
وهما يبدوان كنفي للسياسي وكغياب للحكومة وتشبث كبير بواقع المساواة. فالانسان الامريكي لا يعول إلا علي نفسه وعلي العقل المشاع ولا يعتمد علي ايديولوجيا وفلسفة. إن همه الاكبر هو النجاح المادي أي جمع المال وتكوين الثروة، وما المؤسسات السياسية إلا ما يؤمن حدا أدني من الانتظام الاجتماعي وسيادة القانون.
فكل نشاطهم منصب علي التجارة والصناعة وهذا حسب رأيه نتيجة الظاهرة الديمقراطية أي سيادة المجتمع وتفوقه علي الدولة خلافاً للمجتمعات التاريخية. لكن هذا التفسير غير كاف في رأيي لاسباب متعددة وعوامل كثيرة للحالة الديمقراطية في صفائها وما تجره بالنسبة للفرد من امكانية المبادرة واعتزاز بالذات وشعور بانفتاح كل الامكانات أمامه وتمتعه بحرية كبيرة في نشاطاته. أما لماذا التجارة والصناعة وجمع المال كهدف في الحياة وليس أمرا آخر، هنا يتوقف توكفيل ولا يدخل في سلسلة أعمق من المسببات، لأنه بقي أسيرا لمعادلته بين الديمقراطية في صفائها وحالة المجتمع في كل مجالات النشاط.
فهذا ماكس فابر يقول بعلاقة حميمة بين البروتستانتية الطهورية وبين بزوغ الرأسمالية، ولئن قوضت الآن نظريته الطريفة في الجملة، فقد بقيت فيها عناصر تفسيرية صالحة في إبرازها لمفهوم المهنة كنداء داخلي ووجوب القيام بها بنزاهة وبهدف النجاح في هذه الدنيا ما دام الانسان جاهلا بمصيره في الآخرة، لأن الله يهب النجاة لمن يشاء وليس حسب التقوي والعقيدة وأعمال الخير. ليس من شك في أن هذه الفكرة أثرت في المجموعة الامريكية الطهورية وبررت لها العمل علي جمع المال والنشاط الاقتصادي في هذه الدنيا.
كما لا ننسي ايضا أن الارض الامريكية الشاسعة زاخرة بالخيرات وبالامكانات المادية، وأن موجات المهاجرين من اوروبا ومن بريطانيا علي الخصوص طوال قرن ونصف او قرنين وقرن ثالث بعد توكفيل، هذه الموجات متركبة من أناس فشلوا اجتماعيا في بلدانهم الاصلية، فكان همهم البحث عن الرفاهية والإثراء المادي والخروج من لعنة الفقر التي كان يتبعها الذل. في عالم متفتح دون سابق تراتبية ودون وزن التاريخ والتقليد، يرجع الانسان الي الاسس المادية كما أبرزها ماركس أي الانتاج، انما هنا وخلافا لماركس الذي كان ينظر لعالم مثقل بالتاريخ، الانسان اذ يريد البحث عن فرص جديدة للحياة الكريمة، يريد الانتاج المستقل وتأسيس الخيرات.
لكن التاريخ يلعب دوره اذ أن المهاجرين يجرون وراءهم 18 قرنا من التاريخ الاوروبي والحضارة حصل توظيفها علي هذه الرقعة الامريكية. فهم لم يأتوا من العدم، بل بالعكس، انما لم يكونوا إلا استثناء، منتمين الي الطبقات المستنيرة، والثرية، ومع هذا أفرزت امريكا اشخاصا مثل فرانكلان وفيما بعد دجفرسون الذي جمع بين عمق النظرة والفعالية السياسية، دون أن ننسي قائدا عظيما مثل واشنطن. وقد كانت اوروبا ابان الثورة وبعدها تعترف بأن امريكا منار للحرية وتقدرها كثيرا، من شاتوبريان الي نابليون الي توكفيل، دون ان ننسي لافايات الذي نال شهرته وسمعته من خوضه غمار الثورة الامريكية فلعب دورا رئيسا في الثورة الفرنسية.
ولذا يقول توكفيل في مذكرات السفر ان هذا الشعب اكثر الشعوب حضارة علي وجه الارض وأن الرواد الفاتحين للمساحات الشاسعة يمثلون تواؤما بين التاريخ والطبيعة، لكن ايضا بين الحضارة القصوي والتوحش الاقصي.
ان الديمقراطية المحضة في آخر المطاف هي غياب السلطة، لا يوجد إلا في الحد الاقصي من الحالة الانسانية اما في البدائية او في الاغراق في التحضر حيث يستغني الفرد المستنير عن السلطة لاحترامه القانون تلقائيا.
هنا توكفيل يذهب مذهبا بعيدا لأن المؤسسات السياسية كانت موجودة وهو يبدي تحفظات حول الديمقراطية عندما يتحدث عن الهنود وعن السود لأن فضائلها لا تطال إلا البيض وبالتالي فهي لا تمثل نهاية التاريخ. وهو يعتبر أن هذه الاعراق غير قادرة علي استيعاب الديمقراطية او انها اذا دخلت فيها فستبتلعها الاغلبية، والديمقراطية هي ايضا دكتاتورية الاغلبية.
لكن تنفلت عنه صراعات الاعراق وميل الانسان الي الاستغلال وقانون استيلاء القوي علي الضعيف وقوة الرغبة، بحيث لا معني أن يقال ان الهنود والسود غير مستعدين للديمقراطية لأن نظمهما الاصلية غير ديمقراطية.
من ناحية اخري إذ يقول الرجل بوجود فروق بين الاغنياء والفقراء في كل مجتمع، فهل يمكن له أن يؤكد أن الديمقراطية المحضة تغير الروح البشرية ونمط العلاقات وتكون ذهنية خاصة بها؟
فالديمقراطية لا تسقط كبرياء الفرد وبالتالي دواعي التمايز الاجتماعي، التي تبدو هنا امتيازات فردية وقتية وجديدة، مقامة علي المجهود والثروة وليس علي الإرث والطبقة. لكن الفرد يتشبث بها فيحصل انتاج تمايزات رمزية في صلب المجتمع الديمقراطي. انما يمنع هذا المجتمع المطامح الكبيرة أن تستفحل لأن الامانات الاحصائية محدودة.
وهنا تطرح مشاكل كبري نفسها: الثورة، أهواء المساواة، الحرية وبالخصوص علاقة الديمقراطية بالدين والثقافة
قراءة لتوكفيل
إننا كعرب ومسلمين مبهورون بامريكا بصفة مبالغة، كما كان أسلافنا في القرن التاسع عشر مفتونين باوروبا، بانكلترا وفرنسا علي الاخص. لكنا في كلتا الحالتين لا نعرف الا القليل عن القوي المتفاعلة داخل هذه البلدان في مجالات السياسة والمجتمع والثقافة وعن جذورها في التاريخ الحديث.
فالمعروف عن امريكا زيادة علي القوة العسكرية والثروة، أنها بلد الديمقراطية الكبير الذي يطالب بتطبيق مبادئ حقوق الانسان.
لكن ما هو أصل هذه الديمقراطية وما هو شكلها وبما تتميز به وتختلف به عن الاشكال الاخري؟
هذا الموضوع طرقه مفكر فرنسي توكفيل، في المنتصف الاول من القرن التاسع عشر بنظرة ثاقبة من الخارج والداخل معا، في كتاب مشهور هو حول الديمقراطية في امريكا .
الكتاب كتاب عظيم ويستحق التنويه اكثر مما نوه به الفرنسيون والامريكان من بعد، فهو الذكاء بعينه ونصاعة الرؤيا والكتابة والمقدرة الفائقة علي التحليل والتفسير.
وبحق يقول فرنسوا فور: إنه أفضل من رأس المال لماركس ومن لنظرية الفيلسوف الألماني في التاريخ البشري، لكن الناس مولعون بالتنظير العام وبالطوباويات، لأنها تفسح لهم مجال الحلم والامل، وليسوا مهتمين بصرامة تحليل الواقع. وعلي الرغم من أن كتاب توكفيل منبنٍ ضمنيا علي مقارنة بين اوروبا ما بعد الثورة الفرنسية وبين امريكا، يعني بين عالمٍ اختلطت فيه الارستوقراطية بالديمقراطية وبلد يمثل الديمقراطية المساواتية في صفائها، فإن امريكا وإن استهوت بعض الافئدة في تلك الفترة كانت هامشية بالنسبة لاوروبا ــ مركز العالم وقلب التاريخ ــ وبالتالي لا تجلب الاهتمام.
هذا ما يفسر عدم او ضعف تأثير هذا الكتاب الام في زمانه ومن بعد، علي أن الفرنسيين اعترفوا بنبوغ الرجل في حياته واعتبروا قيمة كتابه، انما ليس بالمقدار الذي يستحق، والآن حصل رجوع الي مؤلف توكفيل لانه وإن كتب في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر 1930 ــ 1935 فانه لا زال ينطبق الي حد كبير علي امريكا اليوم. وبما انه مزيج من التنظير والتحليل، فهو بمثابة فلسفة تاريخ للعصر الحديث في السياسة والمجتمع.
فالقدرة الفذة علي الملاحظة تدخل في دائرة نظرة عامة، وهي انتصار المبدأ الديمقراطي علي المبدأ الارستوقراطي، وأن الديمقراطية وهي المساواتية أساسا في رأيه هي مستقبل بل قدر الانسانية الجديدة. ولذا أخذ يبحث عنها في صفائها في امريكا حيث لم يحصل تعارض بين المبدأين، بل استقرت الديمقراطية من الاول دون مقاومة.
إن توكفيل ينتمي الي طبقة النبلاء، وقد عايش ابوه الثورة الفرنسية وكاد أن يعدم، لكن طفولته مرت في عهد نابليون وشبابه في عهد الملوكية المجددة 1815 ــ 1830 التي استعادت الي حد ما الارستوقراطية مع الإبقاء علي أسس الثورة والامبراطورية.
واذ يقول خوري ان فكره ينبع من تجربته الحياتية الاولي كمنتم الي طبقة النبلاء، فلن يكون هذا بصفة مباشرة وانما عن طريق أبيه واسرته، علما بأنه لم يكن من اكابر اسر النبلاء القديمة.
ولا اعتقد شخصيا بالتالي انه كان مكتسبا لأفكار جاهزة من سن مبكرة، فهو مثلا يعتبر في كتاب آخر مشهور عن الثورة ان الطبقة الارستوقراطية افتقدت كل دور من عهد ملوك الاطلاق. أعتقد ان نظرته أوسع من أن تكون مستقاة من تجربة وجودية، وأنها أساسا منبنية علي فكر الامور، مثلما وعكسيا أن ماركس لم يكن ينتمي الي الطبقة الشغيلة.
والديمقراطية في رأي توكفيل هي نظام سياسي وبالأخص اجتماعي يغدو بطول الزمن مزاجا وطبعا وأعرافا وتعودا وهذا ما حصل في امريكا وما انتظم اكثر بمفعول الثورة الامريكية التي انما كانت حركة تحررية.
والديمقراطية هي نفي لأية طبقة مهيمنة علي المجال الاجتماعي، وبالتالي لأية ارسطوقراطية وراثية او منغلقة عرقيا (مثال الهند) وبذلك فهي المساواة اكثر منها الحرية في الحقوق وحتي في الواقع.
هنا تكتسب ملاحظاته حول امريكا في تلك الفترة، أي بعد قرنين من الاستيطان ونصف قرن من الثورة علي الانكليز، كل وجاهتها، كما تنعكس هنا نظرته الي الثورة الفرنسية علي أنها ثورة المساواة التي أطاحت بأي تأثير للنبلاء، بل دمرت هذه الطبقة تدميرا وبعنف كبير أيام الارهاب إلا من نجا بنفسه وهاجر.
هناك لحظتان أسستا الولايات المتحدة الي حدود الفترة التي عايشها توكفيل: الهجرة الاولي لمجموعة البروتستان الطهوريين في اوائل القرن السابع عشر والثورة الامريكية في الثلث الاخير من الثامن عشر، وهي تحررية لكن ايضا في سبيل الحرية والمساواة.
الطهوريون أناس عرفوا القمع والتهجير في بلدهم الاصلي، انكلترا. وهم شديدو التشبث بمثلهم الدينية والاخلاقية ويمقتون بالطبع التعسف والاضطهاد. فهاجروا أولا الي هولندا حيث كونوا مجموعة أخوية صغيرة وفي لحظة ثانية الي امريكا، ولكن الهجرة الثانية كانت أمرا عظيما لانها تعني القطيعة النهائية مع الوطن، ومع أوروبا ذاتها ومع الأحبة الذين بقوا في العالم القديم. وهي بصفة من الصفات ليست فقط تمزيقا للأوصال، لكن موتا حقيقيا. ان هذه المجموعة نظمت حياتها حسب مثلها، ونظمت ذاتها بذاتها علي اسس جديدة بعيدة عن لعنة تاريخ العالم القديم. واذ طالعنا ما يطال المجموعات الدينية المضطهدة من انضباط اخلاقي شديد ومتعصب، واذ خضعت فيما بعد لسلطة ملك انكلترا بصفتها مستعمرة مع حريات كبيرة، فهي تمثل نواة وأصل الديمقراطية الامريكية لكونها لا تخضع في حياتها اليومية الا لنفسها، ولم تشأ أن تعطي لذاتها سيدا او أسيادا من ذويها. وهكذا وبدون فلسفة سياسية معلنة، كانت السيادة للشعب في الواقع أي للمجموعة المتضامنة وعندما تضخم العدد، صارت البلدة هي مرتكز وخلية المؤسسات والبلدة في انكلترا الجديدة او (التاونشيب) كانت تضم حوالي ثلاثة آلاف ساكن، لكن لها السيادة علي ذاتها، فهي بلدية ان امكن القول إنما ليس بالمعني المتعامل به اليوم. هي جسم انساني وجسم سياسي حيث أساس السلطة بيد المواطنين فعلا، الذين يجتمعون كلهم لانتخاب ممثليهم ومنفذيهم الذين يتولون ضروريات المعاش من قضاء وجباية وميليشيا.
أما عددهم فيناهز العشرين من المواطنين الذين لاحق لهم ان يرفضوا القيام بهذا الواجب ولا يتقاوضون راتبا وانما منحة حينما يقومون بعمل.
هذه أسس الديمقراطية الامريكية: وجود خلايا تسوس نفسها بنفسها وعن طريق ممثليها المنتخبين لمدة قصيرة، والساهرين علي ضرورات الحياة الجماعية. وهم لا يمثلون ارستقراطية ولا نخبة ما، بل كانوا متطوعين وأكثر فأكثر من شرائح فقيرة نسبيا.
واذ نجد فوق البلدة ــ البلدية وأوسع منها ما يسمي بالمقاطعة فهذه لا تمتلك في الواقع أية سلطة. وفوق ذلك نجد الدولة أي الجمهورية وقد قننها الدستور المنبثق عن الثورة لكنه لم يبدعها. الدولة في امريكا قبل الثورة وحتي بعدها هي ما نسميه الولاية وجمعها ولايات، لكن في الواقع لها السيادة كاملة من تشريع وقضاء وجباية وشرطة، ولها معني الدولة لاكتسابها لامكانية العنف الشرعي داخل حدودها. في مستوي التشريع تتمتع الدولة بكل الامكانات وبوجود مؤسسات: مجلس الشيوخ ومجلس الممثلين، وهي المستوي التنفيذي للحاكم (وليس للوالي) المنتخب كل الصلاحيات، والمؤسسات الامريكية تولي سلطة كبيرة للقضاء المنتخب وهو يتدخل في شتي الامور بما في ذلك الادارة وهكذا، اذا كانت الخلية القاعدية هي البلدية، فالسيادة الجهوية كانت بيد الدولة ــ الجمهورية بمؤسساتها المنتخبة وبالتالي الوقتية.
المهم في ملاحظات توكفيل وقد كتبها في 1830 أنها تنطبق علي الوضع الحالي كما تشهده مع تغييرات طفيفة.
فنحن من غير الامريكان سواء كنا عربا او اوروبيين متعودون علي مركزة السلطة، فلا نكاد نفهم مثلا كيف أن شيخ مدينة نيويورك يتحكم في بلديته كالملك، فهو الذي يقرر السياسة الأمنية والسكنية والمالية، وهو الذي قرر طرد ياسر عرفات منذ أمد ليس بالبعيد وقد أتي ليخطب في أعضاء الامم المتحدة. ولا نكاد نفهم أن الحاكم ــ الوالي له حق العفو في الاعدام وليس الرئيس الفيدرالي وأن قائد الشرطة والقضاة منتخبون وأن جامعة كاليفورنيا الشهيرة أسستها دولة كاليفورنيا وهي عمومية. ذلك أن الكيانات المحلية التي تسمي دولا هي دول فعلا وليست بالمقاطعات او الولايات، وهي معطي منغرس في التاريخ وفي العادات والذهنيات علي الرغم من تضخم الحكم الفيدرالي في القرن العشرين هنا نصل الي حكومة الوحدة المتمركزة في واشنطن والتي أقيمت زمن الثورة وبعدها بقليل عندما توحدت الاربع والعشرون دولة لمقاومة الانكليز.
والحكومة الفيدرالية تسمي نفسها كذلك ولا تتسمي بالدولة، ذلك أن صلاحياتها محدودة فلا تضم الا ما هو مشترك بين الدول القائمة وبين أعضاء الشعب الامريكي: السلم والحرب، العلاقات الدبلوماسية، الجباية. ومن المعروف أن هذا الحكم ذو رأسين او ثلاثة فهناك السلطة التنفيذية بأيدي الرئيس وهناك السلطة التشريعية بأيدي الكونغرس ولكل مؤسسة منتخبة ومستقلة عن الاخري. علي أن بينهما جسورا بخصوص الجباية وتسمية كبار الموظفين وقد كانوا قلة في فترة توكفيل.
هذا بخصوص المؤسسات. لكن هم توكفيل الاساس هو إظهار الوعي الديمقراطي والذهنية الديمقراطية لدي الجمهور الامريكي.
وهما يبدوان كنفي للسياسي وكغياب للحكومة وتشبث كبير بواقع المساواة. فالانسان الامريكي لا يعول إلا علي نفسه وعلي العقل المشاع ولا يعتمد علي ايديولوجيا وفلسفة. إن همه الاكبر هو النجاح المادي أي جمع المال وتكوين الثروة، وما المؤسسات السياسية إلا ما يؤمن حدا أدني من الانتظام الاجتماعي وسيادة القانون.
فكل نشاطهم منصب علي التجارة والصناعة وهذا حسب رأيه نتيجة الظاهرة الديمقراطية أي سيادة المجتمع وتفوقه علي الدولة خلافاً للمجتمعات التاريخية. لكن هذا التفسير غير كاف في رأيي لاسباب متعددة وعوامل كثيرة للحالة الديمقراطية في صفائها وما تجره بالنسبة للفرد من امكانية المبادرة واعتزاز بالذات وشعور بانفتاح كل الامكانات أمامه وتمتعه بحرية كبيرة في نشاطاته. أما لماذا التجارة والصناعة وجمع المال كهدف في الحياة وليس أمرا آخر، هنا يتوقف توكفيل ولا يدخل في سلسلة أعمق من المسببات، لأنه بقي أسيرا لمعادلته بين الديمقراطية في صفائها وحالة المجتمع في كل مجالات النشاط.
فهذا ماكس فابر يقول بعلاقة حميمة بين البروتستانتية الطهورية وبين بزوغ الرأسمالية، ولئن قوضت الآن نظريته الطريفة في الجملة، فقد بقيت فيها عناصر تفسيرية صالحة في إبرازها لمفهوم المهنة كنداء داخلي ووجوب القيام بها بنزاهة وبهدف النجاح في هذه الدنيا ما دام الانسان جاهلا بمصيره في الآخرة، لأن الله يهب النجاة لمن يشاء وليس حسب التقوي والعقيدة وأعمال الخير. ليس من شك في أن هذه الفكرة أثرت في المجموعة الامريكية الطهورية وبررت لها العمل علي جمع المال والنشاط الاقتصادي في هذه الدنيا.
كما لا ننسي ايضا أن الارض الامريكية الشاسعة زاخرة بالخيرات وبالامكانات المادية، وأن موجات المهاجرين من اوروبا ومن بريطانيا علي الخصوص طوال قرن ونصف او قرنين وقرن ثالث بعد توكفيل، هذه الموجات متركبة من أناس فشلوا اجتماعيا في بلدانهم الاصلية، فكان همهم البحث عن الرفاهية والإثراء المادي والخروج من لعنة الفقر التي كان يتبعها الذل. في عالم متفتح دون سابق تراتبية ودون وزن التاريخ والتقليد، يرجع الانسان الي الاسس المادية كما أبرزها ماركس أي الانتاج، انما هنا وخلافا لماركس الذي كان ينظر لعالم مثقل بالتاريخ، الانسان اذ يريد البحث عن فرص جديدة للحياة الكريمة، يريد الانتاج المستقل وتأسيس الخيرات.
لكن التاريخ يلعب دوره اذ أن المهاجرين يجرون وراءهم 18 قرنا من التاريخ الاوروبي والحضارة حصل توظيفها علي هذه الرقعة الامريكية. فهم لم يأتوا من العدم، بل بالعكس، انما لم يكونوا إلا استثناء، منتمين الي الطبقات المستنيرة، والثرية، ومع هذا أفرزت امريكا اشخاصا مثل فرانكلان وفيما بعد دجفرسون الذي جمع بين عمق النظرة والفعالية السياسية، دون أن ننسي قائدا عظيما مثل واشنطن. وقد كانت اوروبا ابان الثورة وبعدها تعترف بأن امريكا منار للحرية وتقدرها كثيرا، من شاتوبريان الي نابليون الي توكفيل، دون ان ننسي لافايات الذي نال شهرته وسمعته من خوضه غمار الثورة الامريكية فلعب دورا رئيسا في الثورة الفرنسية.
ولذا يقول توكفيل في مذكرات السفر ان هذا الشعب اكثر الشعوب حضارة علي وجه الارض وأن الرواد الفاتحين للمساحات الشاسعة يمثلون تواؤما بين التاريخ والطبيعة، لكن ايضا بين الحضارة القصوي والتوحش الاقصي.
ان الديمقراطية المحضة في آخر المطاف هي غياب السلطة، لا يوجد إلا في الحد الاقصي من الحالة الانسانية اما في البدائية او في الاغراق في التحضر حيث يستغني الفرد المستنير عن السلطة لاحترامه القانون تلقائيا.
هنا توكفيل يذهب مذهبا بعيدا لأن المؤسسات السياسية كانت موجودة وهو يبدي تحفظات حول الديمقراطية عندما يتحدث عن الهنود وعن السود لأن فضائلها لا تطال إلا البيض وبالتالي فهي لا تمثل نهاية التاريخ. وهو يعتبر أن هذه الاعراق غير قادرة علي استيعاب الديمقراطية او انها اذا دخلت فيها فستبتلعها الاغلبية، والديمقراطية هي ايضا دكتاتورية الاغلبية.
لكن تنفلت عنه صراعات الاعراق وميل الانسان الي الاستغلال وقانون استيلاء القوي علي الضعيف وقوة الرغبة، بحيث لا معني أن يقال ان الهنود والسود غير مستعدين للديمقراطية لأن نظمهما الاصلية غير ديمقراطية.
من ناحية اخري إذ يقول الرجل بوجود فروق بين الاغنياء والفقراء في كل مجتمع، فهل يمكن له أن يؤكد أن الديمقراطية المحضة تغير الروح البشرية ونمط العلاقات وتكون ذهنية خاصة بها؟
فالديمقراطية لا تسقط كبرياء الفرد وبالتالي دواعي التمايز الاجتماعي، التي تبدو هنا امتيازات فردية وقتية وجديدة، مقامة علي المجهود والثروة وليس علي الإرث والطبقة. لكن الفرد يتشبث بها فيحصل انتاج تمايزات رمزية في صلب المجتمع الديمقراطي. انما يمنع هذا المجتمع المطامح الكبيرة أن تستفحل لأن الامانات الاحصائية محدودة.
وهنا تطرح مشاكل كبري نفسها: الثورة، أهواء المساواة، الحرية وبالخصوص علاقة الديمقراطية بالدين والثقافة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق